ليس "سليمان خاطر" اسماً لبطل في رواية أو عمل درامي، ولكنه بطل مصري من لحم ودم، قام بواجبه العسكري كما ينبغي لعسكري لم يلبس وطنيته بخيانة. واسمه وحده كاف لتفسير ما جرى من سلطة الانقلاب في مصر، من اعتقال لطاقم العمل الذي قدم مسرحية تحمل اسمه، بمن في ذلك من تبرع بالإكسسوار المطلوب لفريق العمل، دون أن يكون شريكاً فيه، كتابة أو تمثيلا!
من العبث وصف ما جرى بأنه عداء من أهل الحكم في مصر للفن وعدم تقديرهم للفنانين، فالفن وأهله كانوا جزءاً من حكم العسكر، منذ النشأة والتكوين في انقلاب سنة 1952؛ لأن الانقلابيين الأوائل فطنوا إلى أهمية الفن، كما فطنوا – ربما أكثر من غيرهم – لأهمية الصحافة، فقاموا بتأميمها، لدرجة أنهم غفروا للفنانين والصحفيين ما لم يغفروه لغيرهم، فأم كلثوم مطربة العهد البائد، تصدرت المشهد في العهد الجديد، بعد أن قام "غشوم" بمنع إذاعة أغانيها، وهو ما أزعج جمال عبد الناصر، فألغى القرار الموتور، كما أن محمد حسنين هيكل صاحب مقال "في عيدك يا مولاي"، ويقصد "الملك الفاسد"، صار المتحدث الرسمي باسم الحكم الذي بني مجده على طرد هذا الملك، وقامت دعايته على التشهير به وتشويه حكمه وشخصه!
فأزمة مسرحية "سليمان خاطر"، هي في الشخصية التي يعبر عنها هذا العمل الفني، وهي شخصية يراد محوها من السجلات العسكرية، في زمن أصبح فيه المفرط في التراب الوطني هو من يحمل أعلى رتبة عسكرية، بل إن من الذين طعنوا في حكم القضاء بمصرية تيران وصنافير، كان وزير الدفاع نفسه. و"سليمان خاطر" تكونت عقيدته العسكرية منذ نعومة أظافره على أن الإسرائيليين، قتلة الأطفال في بحر البقر وفي دير ياسين، هم أعداء أمته. والآن، فإن من يغتصب حكم مصر يرى أن مهامه الوظيفية هي تحقيق أمن الإسرائيليين، ليعيشوا في "ثبات ونبات"!
أزمة "سليمان خاطر" أنه سجن بحكم من المحكمة العسكرية، وأنه سجن في السجن الحربي الذي سجن فيه رئيس أركان الجيش المصري في حرب أكتوبر الفريق سعد الدين الشاذلي، وبحكم أيضاً من المحكمة العسكرية، وفي حكم العسكر.
ويبدو أنه قد طال علينا الأمد، فلما نعرف من هو "سليمان خاطر"، وربما يكمن الجهل باسمه في أن أجيالاً جديدة، جاءت إلى السياسية من الأبواب الجانبية بفعل الثورة، دون أن تلم بتاريخ مصر قبلها والعلامات المضيئة فيه، فلم تقض وقتها في التعلم والفهم، وقد تم دفعها لتخطي الرقاب، وبقرار من المجلس العسكري، الذي كان يحرص على الدفع بهم، فلا يجد أمامه من يدركون طبيعة المعركة، ممن كانوا يمثلون المعارضة الجادة في عهد مبارك!
لا أظن أن كثيرا من هؤلاء يعرفون "سليمان خاطر"، فلما جاء من يعيد تقديمه للأجيال الجديدة، كان هذا باعثاً لغضب الآلهة، فزجوا بكل فريق العمل في السجن، بمن في ذلك من تبرع بالإكسسوارات!
"سليمان خاطر" هو ابن قرية "أكياد البحرية"، مركز "فاقوس"، محافظة الشرقية، وهو من مواليد سنة 1961، وكان يقضي فترة تجنيده الإلزامية في سيناء في سنة 1985، عندما وقعت الواقعة. فلأنه كان في نقطة على الحدود المصرية مع إسرائيل، فقد وجد مجموعة من الإسرائيليين يتسللون في جنح الظلام؛ إلى حيث توجد معدات وأجهزة يحظر على غير أفراد كتيبته الوصول إليها أو رؤيتها. لقد أمرهم بالتوقف، لكنهم استمروا في طريقهم فأطلق عليهم النيران فقتل سبعة، قالوا بعد ذلك إنهم مجرد سياح إسرائيليين. فمن أعطى للسياح الحق في التواجد في نقطة عسكرية، ولماذا لم يستجيبوا له؟ وما هي المزارات السياحية التي تتم زيارتها ليلاً وفي الظلام؟!
لقد أحيل "سليمان خاطر" للقضاء العسكري، وناضلت القوى المدنية من أجل تقديمه إلى القضاء العادي، وهو نضال باء بالفشل، وإذ احتشدت المعارضة وصحفها دفاعاً عنه، فقد كان النقيض على الجبهة الحكومية، حيث اتهمته صحفها بالجنون، لنزع أي قيمة وطنية منه، في زمن صار فيه العدو هو الصديق، كثمرة ملعونة لاتفاقية كامب ديفيد.
ربما كان وصفه بالجنون للتمهيد للمرحلة القادمة، عندما يتم التخلص منه، فيكون الأمر مرده إلى أنه مجنون. لكن المؤكد أن الاتهام بالجنون، هو للحيلولة دون مخاطبة الشعور المصري الوطني، فيصبح كل رافض لكامب ديفيد، مجنون، وهو ذات الوصف الذي أطلقوه على "سعد ادريس حلاوة"، ابن قرية "أجهور" بمحافظة القليوبية، ذلك الشاب الوديع، الذي لم يتحمل وجدانه الوطني أن يرفرف علم إسرائيل، في سماء القاهرة، وفي اليوم، والساعة المحددة لاستقبال السادات لأول سفير إسرائيلي، كان "سعد" يلفت انتباه العالم إلى مصر الحقيقية، حيث تصرف في حدود نطاقه الجغرافي، فاحتجز موظفي الوحدة المحلية، دون أن يمسهم بسوء، وظل يذيع الأغاني الوطنية، ويعلن عبر مكبر للصوت عن رفضه للجريمة التي تحدث اليوم، فأزعج رأس السلطة وجاء وزير الداخلية بنفسه ليحاصر المبنى، ويشرف بنفسه على عملية قتله، ليسكتوا كل صوت يرفض الخيانة التي تتم باسم السلام، ورثاه نزار قباني نيابة عن الأمة بقصيدة: "صديقي المجنون سعد حلاوة"، ووصفه بأنه خنجر سليمان الحلبي، المسافر في رئتي كليبر!
كان موقف "سليمان خاطر" في المحكمة تعبيراً عن الثبات، فمحال أن يكون مجنونا، وقد جاءت كلمته على بساطتها، تعبر عن وعي وطني عصي على التزييف. وعي تشكل في وجدان الطفل "سليمان" مبكرا، فقد تأثر كثيراً وهو لم يبلغ التاسعة من عمره بمذبحة "بحر البقر"، عندما قامت القوات الإسرائيلية في سنة 1970، بقصف مدرسة "بحر البقر الابتدائية" فخلفت 30 قتيلا من الأطفال، وقد شهد الجريمة، وظل يجري بسرعة لهول ما عاين!
في المحكمة قال: "أنا لا أخشى الموت ولا أرهبه، إنه قضاء الله وقدره، لكني أخشى أن يكون للحكم الذي سوف يصدر ضدي أثارا سيئة على زملائي تصيبهم بالخوف وتقتل فيهم وطنيتهم"!
وبعد صدور الحكم قال: "إن هذا الحكم هو حكم ضد مصر، لأني جندي مصري أدى واجبه"!
وكانت وطنية "سليمان خاطر" مما يراه النظام الحاكم خطراً على العقيدة الجديدة التي يرسخها، فكان نقله إلى مستشفى السجن، بحجة علاجه من البلهارسيا، وهناك قتل، وقال البيان الرسمي إنه انتحر، وأن الانتحار تم بمشمع الفراش، ثم قالوا بملاءة السرير، وقال الطب الشرعي إنه تم بقطعة قماش مما تستعمله الصاعقة.
وتقدمت أسرته بطلب لإعادة تشريح الجثة، ورُفض الطلب، مما أثار الشكوك. وفي الحقيقة أن أحداً لم يصدق الراوية الرسمية، فالشاب الذي أصبح بطلاً في وجدان الشباب لا يمكن أن يقدم على ذلك، ثم أنه كان قد طلب قبل ذلك بأيام قليلة التقديم له في كلية الحقوق لاستكمال دراسته، وكانت الوفاة في 7 كانون الثاني/ يناير 1986.
وبعد سبعة عشر عاماً، جاء سكرتير الرئيس مبارك للمعلومات، مصطفى الفقي، ليعترف بعد الثورة بأن "سليمان خاطر" قُتل ولم ينتحر!
وعندما يأتي من يُذكر بـ"سليمان خاطر"، الآن، وفي ظل حكم عبد الفتاح السيسي، فمن الطبيعي أن يزعج هذا السلطات، فتتصرف بجنون وتعتقل جميع فريق العمل، بمن في ذلك المتبرع بثمن الإكسسوارات؛ لأنهم خطر على المرحلة الجديدة! وصوت سليمان ارتفع بعد الحكم عليه وهو يخاطب الجنود: "روحوا واحرسوا سينا.. سليمان مش عايز حراسة".
إنه ذاته النظام الذي قتل "سليمان خاطر"!
أضف تعليقك