• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

ما أكثر الأمور التي استقامت على مدار قرون الإسلام الخوالي بسبب هذا التجاذب والندية بين الملوك والعلماء، وأشر الملوك من حاول أن يواجه العلماء بعلماء من صنيعته يتملقونه ويفتون بما يحب ويطربونه بالمديح والنفاق، بينما التاريخ مليء بالرجال والعلماء والعابدين والعابدات من وقفوا أمام الملوك فردوهم ونصحوهم وأقاموا الحجة وأبلغوا الشكوى وأصلحوا حال الأمة فردوا المظالم.

فقد كانت كلمة حق عند إمام جائر مهمة وفريضة على كل من حفظ كتاب الله وجمع سنة رسوله وعلم بفقه شريعته، وقال تعالى في كتابه (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ).

ولعل كلمة “أمة” بالآية ملفتة، فالطريق لمخالفة الحكام والملوك من أخطر الطرق، ولا يتشجع عليه أحد، إلا العلماء، وليس كل العلماء ذوي ضمير متيقظ صالحين، وليسوا كلهم أصحاب قلب قوي لا يخشى في الله لومة لائم، فكان هناك نفر من أمة محمد، نجوم بسماء العلم والفهم، كواكب في فضاء الحق والنضال، أولياء لله صالحون صادقون، كان الفرد منهم كأمة، وقفوا وأبطلوا البدع وأقاموا العدل وقالوا كلمة الحق عند إمام جائر فاستحقوا كل الخير في الدنيا والآخرة بإذنه.

ومن هؤلاء النفر سعيد بن المسيب وكان عالمًا زاهدًا له من العلم والصيت ما جعل عبد الملك بن مروان يتملقه ويحاول التقرب منه لدرجة أنه طلب ابنته لولده الوليد، رفض ابن المسيب تزويج ابنته لابن الخليفة وزوجها لتلميذه أبو وداعة عندما مات أهله ففي ليلتها سأله بن المسيب أن يتزوج فقال أبو وداعة وكيف الزواج ولا أملك سوى درهمين، فزوجه ابن المسيب ابنته، ذهب ابن المسيب لمنزل تلميذه فدهش من الزيارة فسعيد بأوامر الخليفة لا يتحرك كثيرًا حتى أنه يخشى على الناس أن تكلمه فيبطش بهم بن مروان، فظن التلميذ أن سعيد بن المسيب رجع في كلامه بخصوص الزواج ولكن المفاجأة أن بن المسيب لم يحب أن يبيت الليلة عازبًا ولا أهل له، فزف له ابنته وزوجها له في هذه الليلة.

فالإمام سعيد بن المسيب علم من أعلام التابعين، وأحد فقهاء المدينة السبعة في زمانه، ولعلمه وتقاه كان يفتي والصحابة أحياء، وتميزت حياته بالجد والورع والزهد والتواضع وحب العبادة والمجاهرة بالحق، ورفض أن يداهن الحكام أو يصانع الظلمة والطغاة بغية عرض من الدنيا، فتعرض للضرب والجلد والتشهير والسجن.

طلب عبد الملك بن مروان البيعة من المسلمين لولديه الوليد وسليمان فرفض سعيد بن المسيب البيعة وهو من هو، عالم المسلمين وفقيه الإسلام، أرسل عبد الملك لوالي المدينة أن يعرض على المسيب إما أن يبايع أو يمكث بالمنزل أو يفر، فلم يقبل ابن المسيب أيهما، فضرب بالسياط وسجنوه.

وأقبل يوم بويع فيه الوليد بن عبد الملك ولي عهد للخلافة، وطلب من الشيخ سعيد أن يبايع، ولكنه رفض وصمم على الرفض، وأبى كل الإباء إلا أن يعلن: أن هذا الوليد غير جدير بالخلافة، وأن هناك من هو أجدر بها منه.

وكان جزاء الشيخ أن ضرب وعذب وطيف به في الأسواق مهاناً، وهو باق على تصميمه وعزمه.

وأقبل يوم آخر طلب الخليفة من الشيخ سعيد أن يزوج ابنته من ابنه وولي عهده (الوليد) وابى الشيخ، ورفض، وضرب، وعذب، وهو يقول بملء فيه: لا.. لا.. وبقي أيضاً علي تصميمه وعزمه.

وتكررت مواقف الشيخ سعيد بن المسيب، وذاع في الآفاق صيته، واجتمع الرجلان المشاغبان المأجوران ذات يوم في مجلس من مجالسهما.

مولده

ولد أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو القرشي المخزومي المدني، في سنة 15 هـ، في أواخر خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالمدينة، ونشأ وترعرع بها، وطلب العلم منذ نعومة أظفاره، وأخذ العلم من أعلام الصحابة، فسمع من عثمان وعلي وزيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص وعائشة وعبد الله بن مغفل - رضي الله عنهم جميعا - ولازم عبد الله بن عباس حبر الأمة، ودرس على عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - علم أبيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب خاصة أقضيته الشهيرة، حتى برع فيها، وصار الناس يسألونه عنها في حياة ابن عمر، ولنجابته وانقطاعه لطلب العلم وحبه لسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحبه الصحابة جميعاً وأثنوا عليه، وزوجه أبو هريرة - رضي الله عنه - ابنته، واصطفاه بالرعاية والعناية.

نبوغه

بلغ ابن المسيب رتبة في العلم لم يبلغها أحد من أقرانه، ولما نبغ في الحديث والفقه وجلس للتدريس صار أعلم أهل المدينة بلا مدافعة، فتتلمذ عليه كبار علماء زمانه، ومنهم سالم بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن شهاب الزهري، وقتادة، وعمرو بن دينار وغيرهم.

وكان آية في الصلاح والتقى وإيثار الآخرة، وإماماً جمع بين العلم والعمل، عابداً ورعاً تقياً مشهوراً بالمحافظة على صلاة الجماعة والصف الأول وتكبيرة الإحرام، ويذكر أن مسلم بن عقبة المري لما استولى على المدينة سنة 63هـ، في موقعة الحرة منع الناس من الصلاة في المسجد النبوي، فخاف الجميع منه ما عدا سعيد بن المسيب الذي رفض أن يخرج من المسجد النبوي ويترك صلاة الجماعة، وكان مشهوراً بكثرة العبادة، والزهد الشديد، وذكرت المصادر التاريخية أنه كان يعيش من كسب يده، يتاجر في الزيت بأربعمئة دينار، وكان يقول عن هذا المال: “اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان حتى ألقى الله فيحكم في وفيهم، وأصل منه رحمي وأؤدي منه الحقوق التي فيه وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار”، وكان له في بيت المال بضعة وثلاثون ألفاً من الدراهم من عطائه، تراكمت بسبب رفضه قبولها فكان حين يدعى إليها يأبى ويقول: “لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان”، ويحكى أنه زوج ابنته بثلاثة دراهم لتلميذه كثير ابن أبي وداعة، ورفض تزويجها للوليد ابن الخليفة عبد الملك بن مروان حين تقدم لخطبتها.

وأمضى الإمام سعيد بن المسيب عمره في طلب العلم ونشره، ورغم أنه لم يترك مصنفات مكتوبة لندرة وسائل الكتابة، فإن أهل العلم اتفقوا على قبول مرسلاته والحكم عليها بالصحة، وتقف على سائر مرسلات التابعين، ونجد آثاره وآراءه واجتهاداته مبثوثة في كل كتب الفقه والتفسير والحديث التي كتبت بعده.

وجمع الإمام خصال الخير كلها وعرف بالشجاعة والإقدام والاعتداد بنفسه وعلمه، والحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يخاف في الله لومة لائم، وألم به العديد من المحن القاسية بسبب صدعه بالحق، وانتقاده مظاهر الخروج على الشرع، فقد هاله تبدل الأحوال وتغير الناس واستشراء الظلم والمنكر والاقتتال على الملك الذي تبدى عقب عهد الخلفاء الراشدين، وأعلن رفضه لسياسة بني مروان، وامتنع عن أخذ عطائه من بيت المال، وكان يقول: “لا تملأوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم”، وفي سنة 63 هـ، كانت أولى محنه عندما وقعت موقعة الحرة بأهل المدينة وانتهك جيش يزيد بن معاوية بقيادة مسلم بن عقبة المري حرمة المدينة، وأخذ في استعراض الناس على السيف، فقتل منهم المئات، وأحضر الإمام سعيد بن المسيب بين يديه، فقال له: بايع، فقال سعيد: “أبايع على سيرة أبي بكر وعمر”، فغضب الطاغية وأمر بضرب عنقه، فقام أحد أعيان المدينة وشهد أن الإمام سعيد مجنون لا يقبل منه، فأعرض عنه الطاغية وتركه.
بيعة ابن الزبير

ولما انتهى الأمر لابن الزبير - رضي الله عنهما - سنة 64 هـ، أرسل جابر بن الأسود والياً على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: “لا، حتى يجتمع الناس” يقصد في جميع الأمصار، فضربه ستين سوطاً، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه ويقول: ما لنا ولسعيد.

وعندما توفي عبد العزيز بن مروان بمصر في سنة 84هـ، وكان ولي عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، فدعا الناس إلى مبايعة ولديه الوليد وسليمان بالعهد، ولما طلب من سعيد المبايعة رفض بشدة أن يبايع لهما”، وقال: “لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار”، فقيل له أدخل وأخرج من الباب الآخر، قال: “والله لا يقتدي بي أحد من الناس”، فضربه والي المدينة هشام بن المغيرة ستين سوطاً، وطافوا به المدينة في تبان من شعر وسجنوه، ولما أخرجوه منعوه من إلقاء الدروس بالمسجد النبوي، ومنعوا أحداً من الجلوس إليه.

محنة ابن المسيب ووفاته

زادت محنة ابن المسيب عندما تولى الخلافة الوليد بن عبد الملك سنة 86هـ، وكان يبغض الإمام سعيد بن المسيب لامتناعه عن مبايعته بولاية العهد من قبل، ورفضه طلب خطبة ابنته، ولما قدم الوليد المدينة أرسل يطلبه، وكان الإمام سعيد بالمسجد النبوي في حلقة علمه، فرفض أن يفض درس علمه ويذهب للخليفة وطلب إمهاله حتى ينتهي، فغضب الوليد بشدة وهم بقتله، وفزع الناس من إصرار الخليفة الوليد على الفتك بالإمام سعيد، فناشدوه أن يعفو عنه وذكروه بأنه فقيه المدينة، وشيخ قريش، وصديق أبيه، فانصرف عنه. وتوفي - رحمه الله تعالى - سنة 94هـ.

أضف تعليقك