بقلم: مصطفى البدري
كثيرا ما أفكر في الكتابة عن السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، لكني أسأل نفسي: وما الجديد الذي سأقدمه؟ فالكتابات في السيرة لم يَخْلُ منها زمان ولم يفتقر إليها مكان، وقد اعتنى العلماء قديما وحديثا بالتدوين في السيرة بحيث بلغت كتبها مبلغا فاق الكثيرَ من العلوم، وما بين كتب تسرد أحداثها سردا تاريخيا، وكتب تختص بالمعارك والغزوات وغيرها بالسياسة وأمور الحكم ورابعة بالاجتماعيات، وكتب تستخرج الفوائد والعبر، وكتب تنزل السيرة على واقع كُتّابها، وكتب اقتصرَتْ على الثابت الصحيح، وكتب مطولة وأخرى مختصرة؛ من بين كل هذا وغيره.. هل أجد لكتاباتي موطأ قدم؟!
ظل هذا التردد حتى أنعم الله عليَّ بتدريس دورة مكثفة في السيرة، حضر فيها عدد من الدعاة والمختصين في العلوم الشرعية وكان بعضهم أساتذة جامعات، فكان مما تكرموا به أن قالوا لي: هذا الطرح جديد في السيرة النبوية، ورغم أنهم قرءوا ودرسوا في السيرة كثيرا إلا أنهم لم يقفوا على تقسيم وتنزيل بهذه الطريقة من قبل (كذا قالوا)، ومع علمي أنني لم آت بجديد، وأن كل ما قلته قد قد نقلته نصًّا أو معنى من كتابات المتقدمين أو المتأخرين، فقط صغته لهم بأسلوب معاصر حتى يسهل مقارنته بالواقع والاستفادة منه في تغييره، فقررت أن أستعين بالله وأكتب، وفي حين أسأل الله الإخلاص والقبول.. أترك القارئ هو الذي يحكم على ما أسطره، كما سعدت عندما وجدت الدكتور علي الصلابي قد بدأ هو الآخر سلسلة مقالات عن السيرة هنا على موقع مدونات الجزيرة، وفضّلتُ أن أبدأ الكتابة في صورة مقالات متتابعة، عسى بعد التفاعل والاستفادة من تعليقات وانتقادات القراء أن يجد هذا الكلام سبيله للجمع والترتيب في صورة كتاب عن السيرة.
وحيث أني أتصور سيرة الأنبياء جميعا عليهم الصلاة والسلام بأنها ثورة على الطغيان المتفشي في زمانهم، آثرت أن يكون عنوان هذه المقدمة (السيرة ليست حياة إنسان - السيرة ثورة على الطغيان) وكون حقيقتها ثورة على الطغيان، فلعدة أسباب، أهمها أن الجاهلية التي اقتضت بعثة الأنبياء كانت تقوم على الطغيان، حيث تجاوزت الجاهلية حدَّها وأشركت مع الله آلهة أخرى وأعطت لنفسها حق التشريع من دون الله جل وعلا.
قال في المصباح المنير: والطاغوت يُذَكَّر ويُؤَنَّث والاسم "الطغيان" وهو مجاوزة الحد. اهـ. وذكر ابن كثير عن عمر بن الخطاب أنه قال: "الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان". قال ابن كثير: (ومعنى قوله: "إنه الشيطان" قوي جداً فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها) اهـ.
وقد كانت سيرة الأنبياء عبارة عن طريق هدم هذه الجاهلية وإسقاطها، وإقامة التوحيد وتثبيت دعائم حكمه، فكانت الجاهلية تواجه دعواتهم بكل ما أوتيت من قوة لوأدها والقضاء عليها (وهذه سُنّةٌ مُطَّردة، كما قال ورقة لرسول الله: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عُودِي)، وكيف لا تهيج الجاهلية في وجه الدعوات التي تبيّن ضلالَها وانحرافَها فضلا عن سعيها لإسقاط نظام حكمها الذي تقتات عليه؟ وما أشبه الليلة بالبارحة.
وقد أوجز جعفر بن أبي طالب القصة في حديثه مع النجاشي بقوله: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام، ونسيئ الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف. وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله، لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن واَباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وقد أمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم وحقن الدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات... حتى قال: فما كان من قومنا أيها الملك إلا أن عدَوا علينا، فعذبونا أشد العذاب ليفتنونا عن ديننا ويردونا إلى عبادة الأوثان.
انظر وتأمل كذلك هذا السياق من قصة أبي الأنبياء عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}.
وقد ظهر من هذا السياق ما يلي:
حقيقة دعوة الأنبياء هي تحطيم رموز الجاهلية ونسف أفكارها.
حياة الأنبياء عبارة عن حلقات متتابعة ضمن سلسلة الصراع الطويل بين الحق والباطل.
وضوح سفه الجاهلية ومناقضتها للعقل والفطرة لا يقتضي بالضرورة الانصياع للحق وأهله، وهنا قد يحقق السيف ما تعجز عنه الحجة والبرهان.
مهما قوي الباطل وانتفش، ومهما ضعف الحق وانكمش، فإن النصر في النهاية للحق وأهله.
السيرة النبوية ليست حياة إنسان
وفي ذلك بيان خطأ من صنف في السيرة تحت عنوان: (حياة محمد)، فالسيرة ليست مجرد سرد لقصة حياة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وليس أدل على ذلك من أن كتب السيرة لم تذكر من حياة رسول الله قبل البعثة إلا النذر اليسير، بل إن كثيرا مما ذُكِرَ من الأربعين سنة السابقة للبعثة متعلق أصلا بالنبوة والرسالة على سبيل الإرهاصات والتمهيد لاستقبال العالم هذه الدعوة العظيمة، ولتهيئة هذا الإنسان الذي سيحملها، ولك أن تقارن ما سُطِّر حول هذه الأربعين وما صنف في نحو نصفها من السنوات (ثلاثة وعشرون سنة) هي عمر النبوة والرسالة.
ومما وقفت عليه بهذا الصدد، كتاب (حياة محمد) للأستاذ محمد حسين هيكل المتوفى 1956، وهذا الكتاب رغم جودة عرضه وأسلوبه، إلا أنه أخطأ عندما بنى فكرته بشكل كامل على بشرية الرسول دون بيان المعجزات التي يحتاجها لإثبات صدق رسالته!!
قال الشيخ عبد الرحمن صالح المحمود: وقد قلّد فيه المؤلفُ مناهجَ المستشرقين والمبشرين، فمثلاً: أراد أن يجعل من النبي وكأنه واحد من البشر العاديين، ومن ثم سمى كتابه (حياة محمد)، يعني: يريد ألا يجعل هناك معجزة إلا القرآن، فيبعد عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يسميه هؤلاء مخالفاً للعقل من المعجزات ومن المغيبات، ويريد أن يعرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عرضاً كما يقول: ليتناسق مع مقتضيات الحياة ومع بذل الأسباب البشرية، فجاء عرضه في سيرته بعيداً عن تلك القضايا المهمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والتي هي من معجزاته ودلائل نبوته. اهـ
كما وقفت على كتابين آخرين بنفس الفحوى، أولهما كتاب: (حياة محمد ورسالته) ومؤلفه هو: محمد علي اللاهوري القادياني المتوفى 1951، ولئن كان قد وضع في العنوان كلمة: (ورسالته)، إلا أنه لم يختلف في الجملة عن كتاب الأستاذ هيكل، بل كان أسوأ منه في استخدامه بعض التوصيفات العجيبة، فمثلا، يشَبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشخصية الخيالية (سوبرمان)!! غير أنه لم يذكر شيئا من معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى لم يُشِرْ لقصة الإسراء والمعراج رغم تصريح القرآن بحادثة الإسراء وإشارته للمعراج، ويكفي مؤلِّفه أنه أحد أتباع غلام أحمد القادياني (الذي ادعى النبوة)، وأصل الكتاب باللغة الأوردية، وتم ترجمته للإنجليزية ومنها إلى العربية، وهو موجود على المكتبة الشاملة مسبوقا بمقدمة عن حال الفرقة القاديانية.
وثانيهما كتاب: (الرسول - حياة محمد) للمستشرق البريطاني: فيكتور بودلي مات عام 1970، كان ضابطا برتبة كولونيل في الجيش البريطاني، وقد قام الدكتور مهدي رزق الله أحمد بالرد التفصيلي عليه في كتاب صغير أسماه: مزاعم وأخطاء وتناقضات وشبهات بودلي في كتابه (الرسول ـ حياة محمد) دراسة نقدية، ولذلك لن أتكلم عنه.
وإن كان كتاب (عبقرية محمد) للأستاذ العقاد المتوفى 1964 أحسن حالا من الكتب السابقة، إلا أنه أخطأ في نظري من وجهين:
الأول: أن النبي عليه الصلاة والسلام قد اتصف بأعظم وصف وهو النبوة والرسالة مع كمال العقل والحكمة والأخلاق، وهو بذلك يُقارَن ويُفاضَل بينه وبين أفاضل الخلق من الأنبياء والمرسلين (نوح - إبراهيم - موسى - عيسى) وغيرهم، أما وصف العبقرية فيضعه في مقارنات مع عباقرة العلوم الدنيوية حتى لو كانوا كفارا وملاحدة؛ وهذا لسنا بحاجة إليه.
الثاني: أن التركيز على هذا الجانب قد استغله كثير من المستشرقين والعقلانيين وأتباعهم لينسبوا نجاح النبي في تعليم الخَلْق وهدايتهم وإقامة الدولة ووضع الأحكام وتشريعها إلى ذكائه، فيغفلوا جانب الوحي الذي هو مصدر التشريع، وهذا بلا شك يلقي شعورا لا إراديا بأن هذا الدين يتساوى مع غيره من الأديان الأرضية الباطلة في كونه من صنع البشر.
والخلاصة: إن الحديث عن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، لابد أن يشمل المسارات التي تأخذ بيد البشرية للهداية بعد الغواية، وتخرجهم من الظلمات إلى النور، وكذلك المراحل التي مرت بها هذه الدعوة حتى تحولت من الاستضعاف إلى التمكين، ومن التشريد والتعذيب إلى الفتوحات والانتصارات، ونَظْمها في سياق متناغم يجمع بين بشرية رسول الله عليه الصلاة والسلام وربانية المنهج الذي يتنزل عليه، دون إغفال لأي منهما.
والله من وراء القصد
- نقلا عن مدونات الجزيرة
أضف تعليقك