العالم أصبح قرية صغيرة.. هكذا رددوا على مسامعنا منذ كنا تلاميذ بالمدرسة. المعلومة والصورة تنتقل بسرعة البرق من الشرق إلى الغرب.. الطائرات تختصر المسافات، والقطارات تزداد سرعة تقطع الفيافي بين المدن. بعد ذلك حاولوا إقناعنا بعكس ذلك، وأن الوطن أولًا، ولا شأن لنا فيما يجري حولنا من حروب ونزاعات، وكأن منطق القرية الصغيرة لا ينطبق على انتقال الكوراث والجرائم.
حين اخترق النظام السوري الخط الأحمر الغربي واستخدم السلاح الكيماوي، لم يحدث أي شيء.. يتمادى النظام تهجيرًا وتقتيلًا واستخدامًا للأسلحة المحرمة دوليًا برعاية روسية وإيرانية، ويبقى الأمر في إطار أزمة سورية تائهة في دروب الدبلوماسية الدولية ونزاعات النفوذ الإقليمي. ينتقل استخدام سلاح الغاز إلى واحدة من أهم العواصم الأوروبية والعالمية، وهي لندن، في محاولة لاغتيال عميل روسي سابق. موسكو تتجاوز حدودها؛ كما تقول الحكومة البريطانية وتؤيدها في ذلك الولايات المتحدة.
بالمنطق البريطاني والأمريكي المعلن، فإن روسيا تستخدم غاز الأعصاب، وهو استخدام غير مبرر للقوة واعتداء على دولة غربية. حدثني أكثر عن تعريف الإرهاب وأدواته وملابساته، وفق التعريف البريطاني والأمريكي الرسمي طبعا. لا ذكر للإرهاب في مثل هذه الحوادث؛ طالما أن المتهم بارتكابها دولة لها علم وجيش، بغض النظر عن الضحايا والمتضررين.
سيقال إن روسيا تنفي ضلوعها في هذا الحادث، وأن بريطانيا لم تقدم الأدلة التي تطلبها موسكو لتستطيع الرد رسميا على الاتهامات. ونحن هنا لسنا جهة تحقيق، وما كنا للغيب حافظين، ولكننا نركب الصورة وفقا للمواقف الرسمية التي يتبناها كل طرف. فبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وغيرها تعترف باستخدام النظام السوري للغاز السام ضده شعبه، وهي من تتهم روسيا بكل ثقة باستخدام الغاز في قلب لندن. الأولى بمن يتبنى هذه السردية للأحداث، أن يكبح جماح ما يحدث في سوريا؛ لأن الذي يرعى استخدام هذا السلاح في شرق المتوسط لن يتورع عن استخدامه في شرق الأطلسي.
كلما طال أمد الصراع المسلح في سوريا ازدادت أخبار التحركات العسكرية هنا وهناك، لتضفي هالة كاذبة على المشهد، وكأنها حرب أهلية في إحدى الدول الأفريقية بين بعض القبائل. الأمر في حقيقته قضية إنسانية عالمية، قبل أن تكون شأن عربيا أو نزاعا إقليميا. وفي مثل هذه الحروب، تسعى النظرية الاستعمارية القديمة لإدارة الصراع لتحقيق أكبر مكاسب استراتيجية، من دون حسابات الربح والخسارة أو أي اعتبارات لأرواح المدنيين، وهو المنطق الذي يحكم معظم الأطراف الغربية ذات الصلة عسكريا وسياسيا بالأزمة السورية. وهي التي تملك أوراق ضغط لا تريد أن تستخدمها حتى اللحظة، وقد استخدمت بعضها مكرهة الآن حين وصل الأمر إلى ترابها.
إن استخدام أي سلاح للغاز من قبل أي طرف هو جريمة نكراء بغض النظر عن دوافع الاستخدام من قبل دولة أو مليشيا. وينبغي أن يتوقف فورا، سواء أكان ذلك في سوريا أو لندن. إن البشرية التي عرفت كارثة السلاح النووي وشاهدت عواقبه في هيروشيما وناكازاكي، وطورت آليات وسياسيات للحد من انتشاره أو استخدامه، لحري بها أن تطور آليات شبيهة دفاعا عن الإنسان في المقام الأول، قبل أي شيء. فلا يود أحد أن يدفع أي مدني في العالم ثمن حرب لا ناقة له فيها ولا جمل. ولا أحد يسعد أو يتمنى أن تنتقل تفاصيل المأساة السورية إلى أي بقعة في هذا الكوكب. وبعيدا عن أي قواعد مثالية وأخلاقية في العلاقات الدولية، فإن المنطق يقول إن طول أي صراع مسلح ينذر بانتقال شرره القاتل جغرافيا؛ كما تنتقل الصور والمعلومات في عصر القرية الصغيرة.
أضف تعليقك