• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانيتين

يقدم لكم "الشرقية أون لاين" سلسلة من الأئمة الذين جاهرو بكلمة حق في وجة السلاطين المستبدة وعلماء السلطان، ونحن اليوم مع سيرة رجل من الرجال الذين أنجبتهم هذه الأمة عَلَم بحق، كان رأساً في العلم، ورأساً في الزهد ورأساً في الورع، ورأساً في إنكار المنكر، ورأساً في الجهر بالحق، ورأساً في العبادة، ورأسًا في الحفظ، رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه، وقل من الناس من يعرفه، فلا تكاد ترى له عند العامة ذكراً ولا تسمع عنه عندهم حساً وخبراً.

إنه أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري -رحمه الله تعالى-، من قبيلة ثور، وهي قبيلة من مضر، ولد -رحمه الله- سنة سبع وتسعين للهجرة، ودرس على أبيه سعيد بن مسروق ، الذي كان ثقة عند المحدثين، وأخرج له أصحاب الكتب الستة، وطلب سفيان العلم وهو حدثٌ باعتناء والده المحدث الصادق، وأمه كان لها أثر حسن في توجيهه، قالت أم سفيان له:" يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي". تعمل بالغزل وتقدم لولدها نفقة الكتب والتعلم، وقالت له مرة: "يا بني! إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك؟ فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك" من هذا البيت خرج هذا الرجل.

فهو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه ، أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد، مصنف كتاب " الجامع " . 

 أنكاره على الخلفاء

كان هذا الرجل جريئاً في الحق، قوالاً به، ينكر المنكر، وينصح، ولا يخاف في الله لومة لائم؛ لما استخلف المهدي بعث إلى سفيان، فلما دخل عليه خلع خاتمه -الخليفة يخلع خاتمه لـسفيان- فرمى به إلى سفيان، وقال: يا أبا عبد الله: هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة. فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن بالكلام يا أمير المؤمنين: قال السامع للراوي: قال له: يا أمير المؤمنين! قال: نعم. فقال الخليفة: نعم. يأذن له بالكلام. قال: أتكلم على أني آمن؟ قال: نعم. قال سفيان: لا تبعث إليَّ حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك. قال: فغضب الخليفة وهمَّ به، فقال له كاتبه: أليس قد آمنته؟ قال: بلى. فلما خرج سفيان حف به أصحابه، فقالوا: ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسنة؟! فاستصغر عقولهم وخرج هارباً إلى البصرة، وكان يقول: "ليس أخاف إهانتهم، إنما أخاف كرامتهم فلا أرى سيئتهم سيئة"، يعني إذا أكرموني تغاضيت عن الحق ولا أرى سيئتهم سيئة.

 وكان ينكر عليهم الإسراف في الولائم في مواسم الحج، فعن محمد بن يوسف الفريابي: "سمعت سفيان يقول: أُدخلت على أبي جعفر بـمنى فقلت له: اتق الله، فإنما أنزلت في هذه المنزلة وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار وأبنائهم وهم يموتون جوعاً، حج عمر فما أنفق إلا خمسة عشر ديناراً وكان ينزل تحت الشجر" -عمرينزل تحت الشجر- فقال الخليفة لـسفيان: "أتريد أن أكون مثلك؟ قلت: لا. ولكن دون ما أنت فيه وفوق ما أنا فيه. فقال: اخرج".

 ولما أُدخل على المهدي بـمنى وسلم عليه بالإمرة، فقال الخليفة: أيها الرجل! طلبناك فأعجزتنا، فالحمد لله الذي جاء بك، فارفع إلينا حاجتك. قال: وما أرفع؟ حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: حج عمر فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهماً، قال عمر: أسرفنا! وإني أرى ها هنا أموراً لا تطيقها الجبال.

 هروبه من ولاية القضاء.

أما هرب سفيان، وتنقله في البلاد هارباً فترة من عمره، ودفنه لكتبه، فكان بسبب أن الخليفة أبا جعفر أراده على القضاء، فأبى أن يتولاه، فأراد أن يلزمه به، وكان يسجن ويضرب حتى يرضخ القاضي للقضاء، فهرب سفيان، ولا زال هارباً متخفياً، وهو مع هربه يطلب الحديث ويطلب العلم ويعبد الله، قال أبو أحمد الزبيري: "كنت في مسجد الخيف مع سفيان والمنادي ينادي: من جاء بـسفيان فله عشرة آلاف". وقيل: إنه لأجل الطلب والملاحقة.

 هرب إلى اليمن، فاتهموه وهم لا يعرفونه في اليمن بأنه سرق شيئاً؛ فأتوا به والي اليمن معن بن زائدة ، وكان عنده خبر من الخليفة بشأن طلب سفيان، فقيل للأمير: هذا قد سرق منا، فقال: لم سرقت متاعهم؟ قال سفيان: ما سرقت شيئاً. فقال لهم الأمير: تنحوا حتى أسائله حتى أحقق معه ثم أقبل على سفيان فقال: ما اسمك؟ فقال: عبد الله بن عبد الرحمن، وأراد ألا يكذب ولا يذكر اسمه لأنه مطلوب عند الخليفة، فقال الأمير: نشدتك بالله لما انتسبت سأله بالله، فكان لا بد أن يجيب، قال: فقلت: أنا سفيان بن سعيد بن مسروق، قال: الثوري ؟ فقلت: الثوري، قال: أنت بغية أمير المؤمنين؟ قلت: أجل! فأطرق ساعة يفكر ثم قال: ما شئت أقم ومتى شئت فارحل، فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها. يعني أحميك وأدافع عنك، وكان معن بن زائدة فيه خير كثير.

 وهرب إلى البصرة أيضاً، فقال ابن مهدي: قدم سفيان البصرة والسلطان يطلبه، فصار إلى بستان، فأجر نفسه لحفظ الثمار، صار ناقوراً حارساً يحفظ الثمار، فمر به بعض العشارين الذين يأخذون أجزاء الثمار للوالي، فقال: من أنت يا شيخ؟ قال: من أهل الكوفة . فقال: أرطب البصرة أحلى من رطب الكوفة؟ قال: لم أذق رطب البصرة. قال: ما أكذبك! البر والفاجر والكلاب يأكلون الرطب الساعة، ورجع إلى العامل فأخبره ليعجبه يعني بهذا الخبر العجيب للوالي، فقال الوالي: ثكلتك أمك! أدركه فإن كنت صادقاً فإنه سفيان الثوري، فخذه لنتقرب به إلى أمير المؤمنين. فرجع في طلبه فما قدر عليه. ولاحقه أبو جعفر ملاحقة شديدة وجدَّ في طلبه، فاختفى الثوري بـمكة عند بعض المحدثين قال عبد الرزاق: بعث أبو جعفر الخشابين حين خرج إلى مكة وقال: إن رأيتم الثوري فاصلبوه، فجاء النجارون ونصبوا الخشب ونودي عليه ورأسه في حجر الفضيل مختفٍ ببيت، ورجلاه في حجر ابن عيينة ، فقيل له: يا أبا عبد الله ! اتق الله لا تشمت بنا الأعداء.. كان مختفياً في الحرم ورأسه في حجر الفضيل ورجلاه في حجر ابن عيينة ، فتقدم إلى الأستار ثم أخذه وقال: برئت منه إن دخلها أبو جعفر، قال: فمات أبو جعفر قبل أن يدخل مكة، فأخبر سفيان فما قال شيئاً، قال الذهبي رحمه الله: هذه كرامة ثابتة.

واستمر هذا الرجل على العطاء، وكان قد دفن كتبه فلما أمن استخرجها مع صاحب له، فقال صاحبه: في الركاز الخمس يا أبا عبد الله ! فقال: انتق منها ما شئت، فانتقيت منها أجزاء فحدثني بها.

 وفاته وثناء العلماء عليه.

استمر -رحمه الله- عابداً لربه مستمراً على العهد الذي بينه وبين الله علماً وتعليماً وعبادة حتى جاءه الأجل، ووافاه القدر، قدر الله -سبحانه وتعالى- بالموت في البصرة، في شعبان سنة إحدى وستين ومائة للهجرة، وقد غسله عبد الله بن إسحاق الكناني.

وقال يزيد بن إبراهيم: "رأيت ليلة مات سفيان قيل لي في المنام: مات أمير المؤمنين يعني في الحديث".

 ولم يتمكن إخوانه وأصحابه من الاجتماع للصلاة عليه، فجعلوا يفدون إلى قبره يوم وفاته، ودفن وقت العشاء، وعن بعض أصحاب سفيان قال: مات سفيان بـالبصرة ودفن ليلاً ولم نشهد الصلاة عليه، وغدونا على قبره ومعنا جرير بن حازم وسلام بن مسكين من أئمة العلم، فتقدم جرير وصلى على قبره ثم بكى وقال:

إذا بكيت على ميت لمكرمة*** فابك غداة على الثوري سفيان

 وسكت، فقال عبد الله بن الصرباح:

أبكي عليه وقد ولى وسؤدده*** وفضله ناظر كالغسل ريان"

وقال سعيد: "رأيت سفيان في المنام يطير من نخلة إلى نخلة وهو يقول: الحمد لله الذي صدقنا وعده". وهذا مما روي له من المنامات الصالحة بعد وفاته، وقال إبراهيم بن أعين: "رأيت سفيان بن سعيد بعد موته رأيته في المنام، فقلت: ما صنعت؟ فقال: أنا مع السفرة الكرام البررة"، قال أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينك مثل سفيان الثوري حتى تموت"، هذا من ثناء العلماء عليه.

 وقال أيضاً الأوزاعي: "لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلاً يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري".

 وقال ابن المبارك : "كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان". وقال ابن أبي ذئب: "ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري". وقال ابن المبارك: "ما نُعت إلي أحد فرأيته إلا كان دون نعته -دون الوصف- إلا سفيان الثوري -رحمه الله رحمة واسعة-".

هذا من الرجالات الذين أنجبتهم هذه الأمة، وصاغهم هذا الدين، فكم نحن بحاجة أن نلتزم خطاهم، وأن نسير على نهجهم، وأن نتمثل سيرهم، كم نحن بحاجة إلى استعادة سير أسلافنا الماضين؛ لنكون في العز كما كانوا أو نحاول، ونحن نعلم أننا لن نكون مثلما كانوا، لكن على الأقل لا يصلح- أيها المسلمون- أن تبقى سير العلماء مدفونة، وأن يبقى أولئك الأجلاء الأعلام غير معروفين عند متأخري هذه الأمة، هذه جريمة لا تغتفر، فإن هؤلاء الصالحين قدوة يجب الكلام في سيرهم، ونشر نهجهم وحياتهم؛ حتى تعرف هذه الأمة الامتداد الحقيقي لها، وتعرف هذه الأمة أن لها سابقين، وتعرف هذه الأمة أنها متى قامت بالحق وعدلت بوأها الله المكانة التي ينبغي أن تكون عليها.

أضف تعليقك