لا يجبُ أن تكون خبيرًا في كرة القدم، لتعلم عظمة ما صنعه لاعبُ منتخب مصر، المحترف في "ليفربول" الإنجليزيّ، محمّد صلاح، في مباراته الأخيرة أمام نادي "واتفورد"، ضمن منافسات الدوري الإنجليزي، لقد صنع الرجل إنجازًا يستطيع أن يفهمه كلّ أحد، ولا يدركُ سرّه المستحيل أحد! "سوبر هاتريك" تاريخيّ، جعله في صدارة هدافي الدوريّات الأوروبية بلا منافس، وينتزع له مكانًا بين كبار لاعبي العالم، في مُدّة قياسيّة، وصعودٍ صاروخيّ.
أهدافُ صلاح المتواترة كالمطر لم تكن وحدها سببَ شعبيّته الجارفة، لعلّ مشجعي "ليفربول" لا يأبهون بغير أهدافه، لكنّ "قاعدة صلاح الجماهيرية" إن صحّ التعبير، اتّسعت لتشمل مشجعي نوادٍ أخرى، بل وكثيرًا من غير المهتمّين بكُرة القدم أصلًا، هؤلاء لم يروا في صلاح مجرّد ماكنة أهدافٍ يستحيلُ إيقافُها، بل كان صلاح بالنسبة إليهم رمزًا زاخرًا بمعاني النبل والجمال.
محمّد صلاح ببساطته وعفويته، وطيبة قلب ابن القرية المصريّ، أسر قلوب الناس شرقًا وغربًا، تلبيتُه لكلّ دعوةٍ يدعوه إليها طفلٌ، بدءًا من الطفل الإنجليزيّ الذي رفع لافتةً يطلبُ قميصه؛ فجاءه من أقصى الملعب حتى أعطاه له بيده أمام الجماهير، ومرورًا بالطفل الإنجليزيّ الآخر الذي فاجأه بزيارةٍ في بيته حين عبّر من خلال تسجيل مرئيّ عن حبّه للنجم الكبير، وليس انتهاءً بمكالمته الطويلة مع طفلٍ مصريّ مريضٍ بالسرطان، وحديثه الرقيق معه، وتكفّله الكامل بعلاجه ورعايته، هذه روحٌ آسرة، ظاهرٌ فيها الأصالة والصدق، بعيدٌ منها التصنّع والتكلّف.
ثمة أمرٌ آخر يميّز صلاح، وهو جُوده وكرمه وتبرّعه السخيّ، وهو في بداية مشوار الغنى، ناشئٌ في بيت متواضع اقتصاديًّا، يجودُ ويبذلُ الكثير بمجرّد ما ابتسمت له الحياة، فتبرّع بـاثني عشر مليون جنيه (نحو 700 ألف دولار) لمستشفى سرطان الأطفال! كثيرٌ من النجوم يتبرّعون ويساهمون، لكن هذا السخاء الحقيقيّ والكبير لا يتميّز به إلا قلّة منهم، فإن كان من نجمٍ صاعدٍ لم ترسخ قدمُه بعدُ بين أغنياء كرة القدم العالمية، فهو أحقُّ بالاحتفاء والإعجاب والإشادة.
ميزةٌ أخرى يتميّز بها محمد صلاح، وترفعُ أسهمه في شباب الجيل العربيّ الحاليّ، إذ كان نموذج أمل ونجاح، شابًّا بدأ من الصفر، عمل بجدّ وعزم، وتَعِب هو وأهله من أجل أن يصل، ثم واجه عقباتٍ وتشكيكًا في موهبته وقيمته، لكنه سعى وواصل، وآمن بحلمه حتى حقق أكثر مما حُرم منه يومًا، إنّ صلاح أضحى في نظر الشباب دعوةً حيّةً للأمل، وقصّة مُلهمةً في واقعٍ بالغ البؤس.
كلُّ ما سبق لم يكن -في نظري- هدف صلاح الأعظم، فلا أهدافه مع "ليفربول"، ولا هدفه الذي صعّد مصر إلى كأس العالم في الدقائق الأخيرة، ولا حتى بساطته وسخاؤه والأمل الذي منحه جيلَنا المنكوب، إنّما هو الاختراق الكبير الذي حققه في قطاعٍ جماهيريّ عريض، يقومُ أساسًا على التعصّب والتحيّز، ويشتهرُ أيّما اشتهارٍ بالعنصرية والبذاءة، ألا وهو جماهيرُ كرة القدم، وفي القلب منهم جمهور كرة القدم الإنجليزيّ.
تكاثرت الأغاني والهتافات والمنشورات والتغريدات التي تتحدّثُ عن قُرب إسلام مشجعي ليفربول، بسبب أهداف صلاح المتوالية، غنّى بعضُهم: إذا كان جيّدًا -أي: الإسلام- بالنسبة إليه، فهو جيّدٌ بالنسبة لي أيضًا، إذا أحرز مزيدًا من الأهداف، فسأصبح مسلمًا أنا أيضًا"، ووعد بعضهم بأن "يقيم في المسجد"، حتى بلغ الأمرُ غايته بإعلان مدير أحد حسابات تشجيع ليفربول المشهورة على "تويتر" إسلامه عقب "السوبر هاتريك" الشهير، مرفقًا إعلانه ذاك بالشهادتين مكتوبتين بالعربية، ويدٍ ترفعُ إصبع السبابة!
لم يكن كلّ ذلك-أغلب الظنّ- إسلامًا حقيقيًّا، فالتحوّل من دينٍ إلى دين، إنّما يكون ناشئًا عن نظر واقتناع، إنما الأمرُ مزاح، أراد القومُ به المبالغة في تعبيرهم عن حبّ الهدّاف المحبوب، أو تستطيع أن تقول: إنهم آمنوا بصلاح وأحبّوه، لكأنه نبيٌّ والأهدافُ معجزته، لكن الأمر لا يعدو هذا الجانب العاطفيّ الرمزيّ!
قد يتأثرُ بصلاح قلة أو كثرة، وقد يتسبّبُ فيما بعدُ بدخول أناسٍ في الإسلام، يكسرُ صلاح صورة المسلم النمطية لديهم، ويصححُ نظرتهم نحو هذا الدين الذي تعرّض لكثيرٍ من التشويه، بأيدي أبنائه وأعدائه جميعًا، وسيكون ذلك إنجازًا شخصيًّا أخرويًّا كبيرًا لصلاح، لكنه بعيدًا من ذلك، حقق لأمته وللعالم الكثير، بهذا "الإسلام الكوميديّ" لمشجعي "ليفربول"، إن صحّ التعبير.
يعاني العالمُ كلّه من صعودٍ لليمين، لا سيّما في الغرب، الهجرة والإرهاب والحملات الشعبويّة وكثيرٌ من الأسباب المعقّدة أدّت إلى صعود غير مسبوق للفاشيين والعنصريين والساسة المخبولين، يُصوّتُ الناسُ لهم في الانتخابات، ثم يعيّنُ المُنتخبون من هم أكثرُ منهم تطرّفًا وجنونًا، وأمامنا المثالُ الصارخ المعتوه، الرئيس الأمريكيّ "دونالد ترمب"، إذ تبجّح كثيرًا بكراهيته للمسلمين، ثمّ ها هو يُعيّن وزير خارجيّة أشدّ كراهية وحقدًا، ورئيسة استخبارات عريقة التاريخ في التعذيب والإجرام، كلّ ذلك في موجة كراهية عامّة للمسلمين، تكادُ تشملُ معظم الدول الغربية.
غير بعيدٍ من صلاح، على الأرض الإنجليزيّة، تتنادى دعواتٌ عنصرية إرهابية، للاعتداء على المسلمين، بالقتل والحرق والتخريب، تحت شعار: "عاقب مسلمًا"، حدّد هؤلاء المجرمون موعدًا هو الثالث من أبريل المقبل، وباشروا منذ مطلع مارس الحاليّ بإرسال رسائل التهديد، التي وصل بعضُها إلى نوابٍ مسلمين في البرلمان منذ أيام، يحصلُ كلّ هذا بينما يتألق صلاح، ويتغنى مشجعوه -من أجله- بالإسلام، وباسمه "محمّد".
هنا تبرزُ أهميّة الأثر الصلاحيّ، أثر الفرد الواحد الذي استطاع أن يجبر التقاعس العربيّ والإسلامي، والفشل والعجز العام في مواجهة هذه الهجمة التحريضية التشويهية، وحده صلاح استطاع ذلك، بلا كبير جهد، وبلا تنظير ولا كثرة كلام! إنما بلمسات عفوية ذكية، بسيطة وصادقة، فقط باعتزازه الواثق بهُويّته، مصريًّا عربيًّا مسلمًا، فخورًا بذلك كله.
كم هي مبهجةٌ صورة "صلاح" وهو يحملُ نسخته الضخمة من الكتاب الكريم، ويتحرّكُ به في الطائرات والمطارات، بينما تعرّض كثيرٌ من المسلمين للطرد من رحلاتهم الجوية، لمجرّد حديثهم بالعربية، أو بسبب ملامحهم وثيابهم، هذه المفارقة تلخص الاختراق الكبير الذي أحدثه صلاح في جبهة العنصرية والكراهية، ويتجلّى من خلالها الهدفُ الأعظم الذي أحرزه صلاح بأدنى جُهد، في مرمىً عسيرٍ، عليه حارسٌ جَلدٌ كريه.
أضف تعليقك