بقلم: حسن أبو هنية
أكدت الانتفاضات الثورية والحراكات الاحتجاجية التي اجتاحت العالم العربي بداية 2011؛ تآكل شرعية الأنظمة السلطوية العربية التي تشكلت عقب أفول الحقبة الكولونيالية وتلبست بمسمى الدولة الوطنية. وفي سياق نشوء وتشكل أزمنة العولمة والإرهاب، أدركت الأنظمة السلطوية المحلية أن نجاتها يكمن في بناء شرعية جديدة تخرج من أفق مفهوم "الشرعية" السياسي التقليدي، وتستند إلى تأسيس "شرعية" بديلة تقوم على الكفاءة في "حرب الإرهاب"، وهو مفهوم ذاتي غير موضوعي جرى توسيعه ليشمل جماعات الإسلام السياسي، بالإضافة لحركات لإسلام الجهادي، حيث توافقت الفاشية المحلية مع الإمبريالية العالمية على التهرب من تحقيق "الديمقراطية".
خاضت الأنظمة السلطوية في العالم العربي معركة وجودها من مدخل "حرب الإرهاب"، كمحدد جديد لمصطلح الشرعية، ونعتت خصومها الساسيين بـ"الإرهابيين". لكن الديناميكية الأساسية لموضوعة الحرب على الإرهاب، كما برهنت الأحداث الجارية في سوريا خصوصا والمنطقة العربية عموما، تشير إلى تضامن الفاشيات المحلية مع الإمبرياليات العالمية. فمسألة "الإرهاب" حالة عرضية في مجال اللعبة الدولية "الإمبريالية"، واللعبة المحلية "الفاشية". فقد كشفت التطورات الميدانية المتسارعة في وسوريا عن جوهر الصراع على المنطقة المتعلق بتحقيق مزيد من السيطرة والهيمنة والنفوذ، وأولويات النظم الدكتاتورية بتجديد شرعيتها عبر بوابة الحرب على الإرهاب. وبرهنت الحالة السورية على الطبيعة الانتقائية لمفهوم الإرهاب واختلاف القوى الدولية والإقليمية حول ماهية الإرهاب وتعريفاته وتحديد هوية الإرهابيين والحركات الإرهابية، وحدود ومقاصد الحرب على الإرهاب، حيث تتبادل مختلف القوى الاتهامات بدعم الإرهاب وعدم الجدية في مكافحته.
السياسة المحلية والإقليمية والدولية المتعلقة بالحرب على الإرهاب؛ أصبحت فوضوية وتفتقر إلى الحد الأدنى من المنطق، ذلك أن أطراف الصراع الدولي والإقليمي والمحلي استثمرت اللعبة الإرهابوية ودفعتها إلى حدود الفوضى، حيث يصعب التوصل إلى تعريف محدد للإرهاب بعيدا عن لعبة القوة والهيمنة والسيطرة. فعلى الصعيد الإقليمي، تجاوزت الأنظمة المحلية الحركات والمنظمات الموصوفة بالإرهابية، ودخلت في رمي بعضها بتهمة دعم وتمويل "الإرهاب".
اختلالات منظورات الحرب على الإرهاب لا نظير له في سوريا، حيث تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية على المقاتلين الأكراد الذين تصفهم تركيا بالإرهابيين، فضلا عن إقرار الإدارة الأمريكية باعتبار حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية. وفي نفس الوقت، تؤكد الولايات المتحدة على أهمية الدور التركي في حرب الإرهاب، فضلا عن كون تركيا إحدى دول "حلف شمال الأطلسي"، في الوقت الي تعتبر روسيا حليفا لكيانات وقوى موصوفة بالإرهاب، كحزب الله، فضلا عن تصنيف الولايات المتحدة لإيران وسوريا الحليفة لروسيا كدول راعية للإرهاب.
الاختلافات العميقة حول الحرب على الإرهاب وماهيته تذكرنا بأحد استبصارات إدوارد سعيد، حيث خلص في مرحلة مبكرة من سيادة عصر "الإرهاب" إلى تعريف طريف ودقيق للإرهاب، بحيث يصبح هو أي شيء يقف في وجه ما نرغب "نحن" في "فعله"، إذ يصبح "الإرهاب" اسم مفروض غير مفترض، تحدده سلطة القوة وفق المصالح القومية، الأمر الذي يتضح جليا في الحالة السورية من خلال التنافس الأمريكي الروسي، إذ يقع خارج سياق الإرهاب كل من يقف إلى جانبنا. ففي الوقت الذي تتهم أمريكا شركاء روسيا بالإرهاب، تصف روسيا شركاء أمريكا بالإرهاب.
منذ بداية الثورة السورية، اختزلت القوى الدولية التي عرفت نفسها بمجموعة "أصدقاء سوريا"، المسألة السورية برحيل الأسد، باعتباره راعيا للإرهاب. ومع تنامي الجماعات الجهادية وصعود تنظبم الدولة الإسلامية، أصبحت الأولوية الكونية تتلخص بالتخلص من "إرهاب القاعدة والدولة". وغدت نقاشات حفلات التفاوض تقتصر على دروس افتتاحية في تعريف ماهية الإرهاب، وهو مفهوم يستعصي على الحد المنطقي منذ دخوله قاموس السياسة، لكن تقنيات التفاوض الاحتفالي الاحتيالي تجاوزت تحديدات وحدود معنى "الإرهاب"، باعتباره إشكاليا، لكنها سلّمت بالإجماع على أن "القاعدة والدولة" يمثلان روح "الإرهاب" وجسده. وهكذا، فإن الأسد أصبح كعدو للإرهاب، فلا يمكن أن يكون إرهابيا.
عقب سبع سنوات على الثورة السورية تحولت الرؤية الدولية، حيث بات الأسد شريكا في حرب الإرهاب، وبات الجدل ينطوي على إمكانية تأهيله شخصيا والتسليم بضرورة المحافظة على مؤسسات دولته السياسية والعسكرية والقانونية للوقاية من تفشي الإرهاب، وغدت محادثات السلام المتقطعة في جنيف تقتصر على دروس في تعريف معنى الإرهاب وتحديد هوية الإرهابيين. وعقب التدخل الروسي في سوريا نهاية أيلول/ سبتمبر 2015، وهو تدخل جاء على خلفية حرب الإرهاب، قدمت روسيا تعريغاتها الخاصة للإرهاب، وجادلت منذ البداية بأن قائمة الجماعات الإرهابية لا تقتصر على "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة"، بل تتضمن قائمة طويلة ممن الفصائل السورية المسلحة.
منذ اللحظات الأولى لانطلاق الحركة الاجتجاجية السلمية الثورية في سوريا، قدم نظام بشار الأسد نفسه دوليا كضحية للقوى الإسلاموية الإرهابية، حيث صنّف كافة النشطاء السوريين المحليين والمقاتلين الأجانب باعتبارهم "إرهابيين". ورغم تهافت منظوراته، سرعان ما اختفى الحديث عن المطالب المحقة العادلة، وهيمن حديث "الإرهاب"، ونشأ ائتلاف موضوعي دولي إقليمي إمبريالي متماه مع فاشية النظام. فبحسب أورورا سوتيمانو، في الوقت الذي شنّت فيه الولايات المتحدة غاراتها الجوية ضد المواقع الجهادية في الأراضي السورية، صار "الأعداء" التقليديين (الولايات المتحدة وإسرائيل) لجبهة المقاومة يبلُون الآن جيدا بتموقعهم في سوريا، وبالتالي يدعمون التطور المفاهيمي لنموذج المقاومة الأصلي باعتباره نموذجا عابرا للحدود لمكافحة حركات التمرد يجمع جيش مقاومة حزب الله، وقوات الحرس الثوري الإسلامي، والقوات المسلحة السورية، والمليشيات العراقية (على الرغم من اختلاف أولوياتهم) ضد شبكات الجهاديين عابرة الحدود والمؤامرات الدولية. وهكذا أصبحت الشرعية في المنطقة تأتي من الخارج، وهي عمل من أعمال الدعم الخارجي والتنافس الإقليمي أكثر من كونها نابعة من الديناميات الداخلية، وأثارت نقاشات في ثلاثة تدور حول مسألة الشرعية المشهد الدولي: تقييم شرعية نظام الأسد، وشرعية التدخل العسكري الدولي، و"الحرب الجديدة على الإرهاب"، وهي الأسئلة التي يمكن أن تشير إلى "فقدان آخر للشرعية". تضاءلت هذه المخاوف تدريجيا بعيدا عن التأطير الدولي للحرب السورية، عندما أصبحت "الحرب على الإرهاب" هي سرديّة الشرعنة الشاملة للتدخلات العسكرية.
إن جزءاً من خطاب "الحرب على الإرهاب"، حسب أورورا، سوتيمانو يُعدّ استراتيجية لنزع الشرعية السياسية القائمة على ممارسة وصف المعارضة بـ"الآخر" المتطرف؛ الذي لا يمكن التعامل معه إلا من خلال القضاء عليه، وبالتالي منع إمكانية تقييم مدى صحة مطالب العدو. ولاحقا، يتم ربط سلسلة من الارتباطات المعيارية بالقضية المعنيّة، وتختفي الحالة "الاستبدادية" التي تم اختيار القضيّة من أجلها. كما تصبح معاناة المدنيين العالقين وسط هذه الحرب غير مرئية: فالعنف الواقع عليهم ما هو إلا مجرد ثمن لتحريرهم. ففي الغرب، يعتبر خطاب "الحرب على الإرهاب" في النهاية خطابا مُبسَّطا يهدف إلى تجاهل تعقيدات القضايا السياسية التي تتطلب معالجة مطالب وأهداف المعارضة.
لقد بات واضحا أن الأنظمة السلطوية العربية عملت على تجديد شرعيتها استنادا إلى الانضمام إلى نادي "حرب الإرهاب"، كما تؤكد أورورا سوتيمانو في مقالها "بناء الشرعيّة السلطويّة: الامتثال الداخليّ والموقف الدوليّ لسوريا الأسد". ففي العالم العربي، تمثّل "الحرب على الإرهاب" أداة سلطويّة جديدة للحفاظ على الذات، وهي محاولة لإيقاف الانتفاضات الجماهيرية التي اجتاحت المنطقة. تُبيّن الطريقة التي فكّك بها خطاب "الحرب على الإرهاب" بنية الخصوم؛ مدى سهولة تبنّي القادة العرب لمجموعة من الشعارات التي تعكس المواقف الغربية تجاه الإرهاب، وباتت أكثر الأعمال الوحشية التي ترتكبها الحكومات الإقليمية؛ محصّنة ضد الانتقادات في الوقت الذي يقودون فيه دولهم إلى هاوية "الحرب العربية على الإرهاب".
حرب السلطويات العربية على الانتفاضات الديمقراطية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب لا يزعج الإمبرياليات العالمية. فبحسب مايكل يونغ في مقاله "نمورٌ من ورق"، ولإنقاذ نظامه بعد العام 2011، أعطى الأسد رجالَه الضوء الأخضر لارتكاب ممارسات وحشية من دون قيد أو رادع، فلم يتوانوا عن استخدام الأسلحة الكيميائية مراراً وتكراراً، وأغرقوا البلاد في لُجج كارثة إنسانية مهولة، إذ أُرغم 5.5 ملايين سوري على مغادرة البلاد، وأمسى 6.1 مليون سوري نازحين داخلياً، من مجموع سكان البلاد البالغ نحو 23 مليوناً، ناهيك عن تدمير أجزاء كبيرة من المدن والبلدات الكُبرى، وقصف المدنيين والمستشفيات والمدارس وإمدادات المياه، وارتكاب أعمال قتل جماعي أسفرت عن مصرع الآلاف في سُجون النظام. ومع ذلك، لم يؤدِّ أي من ذلك إلى اتخاذ إجراءات دولية منسّقة لوضع حدّ لأعمال العنف أو لمعاقبة المذنبين، وفي الوقت نفسه، لم يدفع أقوى داعمي الأسد أي ثمن على الإطلاق لمشاركتهم في القمع الوحشي للشعب السوري. أما الولايات المتحدة، فتبدو في الغالب غير متّسقة، بقيادة متعهد ترفيه تلفزيوني ترقى سياساته الشرق أوسطية إلى مصافي العناوين الجوفاء والمتناقضة. ويبدو أن أمثال الأسد وبوتين في هذا العالم قد أدركوا حقيقة الغرب، وهم يُظهرون الآن الازدراء لأسباب مفهومة. وفيما يوسّع هؤلاء هوامش ما يمكن أن يقوموا به في سوريا، يدركون تماماً أن ردود الفعل ستكون شبه معدومة.
خلاصة القول أن الأنظمة السلطوية العربية لجأت إلى تجديد شرعيتها؛ عبر التماهي مع خطاب "الحرب على الإرهاب الإسلامي" الإمبريالي العالمي، الذي بربط بين الإسلام والإرهاب، فماهية الإرهاب وهوية الإرهابيين في الأعراف الدكتاتورية المحلية والإمبريالية العالمية تحدد بانتمائاتها إلى الأكثرية المسلمة السنيّة المطالبة بالحرية والديمقراطية. فقد استثمرت الدكتاتوريات المحلية التي تعرف نفسها كأنظمة "علمانية" لا صلة لها بالإسلامية؛ في سياسة وثقافة الخوف من الإسلاميين السنة "الإرهابيين"، على الصعيدين الداخلي والخارجي، حيث برز قادة المنطقة من الدكتاتوريين كأبطال في مواجهة الإرهاب والإرهابيين الذين يهددون الأقليات الدينية والمذهبية والأقليات العرقية والإثنية المحلية، ويستهدفون الآمنين من رعايا الدول الغربية. وهكذا، فإن الشرعية باتت تكافئ الاستعداد بالانخراط في حرب الإرهاب، والاندماج في النظام العولمي النيوليبرالي الجديد، الذي تخلى عن نشر قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، وباتت انشغالاته تنحصر في حرب الإرهاب الذي هو من اخترعه عبر دعمه للاستبداد.
أضف تعليقك