• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: براء نزار ريان

ليلةٌ مشهودةٌ تمرّ على غزة، المقاومة تقيم مناوراتٍ عسكرية، ابتدأت بعروضٍ مثيرة، وتخللها إطلاقٌ للصواريخ التجريبية، وتسييرٌ للطائرات محلية الصنع، وانتهت بتدريبات بالذخيرة الحيّة لمضادات الطيران، هذه الأخيرة تحديدًا كانت مميزة، إذ انطلقت في أثرها مضادات "القبة الحديدية"، الإجراء الدفاعيّ الصهيونيّ باهظ التكلفة ضدّ الصواريخ الغزية، ليلاحق رصاصاتٍ صغيرة متواضعة رخيصةٍ، وتدوّي مع ذلك صافراتُ الإنذار في مدن "غلاف غزة" داخل فلسطين المحتلة!

 كانت تلك صورةً رمزيّةً بالغة التكثيف، في رسم المعنى المعروف، بتركّز قوةٍ كثير من الأشياء في ضعفها! تمامًا مثل صواريخ المقاومة بدائية الصنع، إذ طالما أدى تخلفها التقنيّ، وقصر مداها، إلى صعوبة تعقبها والتصدّي لها، حكاية القوة في الضعف هذه، شديدةُ التكرار في الحالة الفلسطينية، وهي اليوم حاضرةٌ بقوّة في الخطوة الشعبية العظيمة التي يُعدّ لها الفلسطينيون باسم: "مسيرة العودة الكُبرى".

تدعو أطرٌ شبابيّة، ونشطاءُ فلسطينيون منذ أشهر لفعالية جماهيريّة كبيرة، ملخصها الزحف الشعبيّ السلميّ نحو حدود فلسطين المحتلة، رافعةً شعار "العودة" إلى فلسطين، متسلّحةً بالحقّ الأصليّ للمهجّرين في بيوتهم التي أخرجوا منها بالإرهاب والقوة، وبقرارات الشرعية الدولية التي صدرت تثبتُ لهم حقهم في العودة والتعويض عن سنوات التشريد.

منذ انطلقت هذه الدعوات، استشعر الصهاينةُ الخطر، لا شيء تصنعه في مواجهة مئات الآلاف أو الملايين، إذا قرروا أن يزحفوا عزلًا غير مسلحين، مطالبين بمطلبٍ إنسانيّ مشروع، لا يختلف عليه اثنان. كم ستقتلُ منهم! وماذا ستصنع بهم! وأي خطةٍ يمكنها التصدّي لهم! هذا بالضبط ما لم يتحفّظ مسئولون وساسةٌ وكتاب ومحلولون صهاينة في التعبير عن مخاوفهم منه.

سبق هذه الدعوات دعوةٌ مشابهة إثر انطلاق الربيع العربيّ، وقد كانت تجربةً مغرية بالمواصلة، والظروف اليوم مواتيةٌ أكثر، خاصّة في غزة، التي تشهدُ ضغطًا غير مسبوق، وتستعدٌّ لانفجارٍ عظيم، يمكنُ أن يكون فعلًا طريق النجاة لها، والفرج للقضية بأسرها. كنتُ مشاركًا فاعلًا في مسيرات 2011، وأرجو أنني تعلّمتُ بعض الدروس من تلك التجربة، لا أدعي التفرّد بها، ولكن أحبُّ أن أشاركها وأؤكّد عليها:

أوّلًا: العدد قوة وعِصمةٌ وأمن، كلّما ازداد العددُ كانت الفعالية أكثر إرباكًا للعدوّ، وآمنَ للمشاركين من القتل والاعتقال. يسهلُ السيطرة على بضعة آلاف، يمكن مواجهة عشرات الآلاف، لكن مئات الآلاف سيلٌ بشريٌّ جارفٌ لا ينهضُ لمواجهة جيشٌ ولا تسيطرُ عليه شرطة.

ثانيًا: السلمية الكاملة، إذ ينبغي أن يكون الضغطُ ضغط حشود لا مناوشة، عبورًا بالأجساد نحو فلسطين، ليس تقليلًا من الكفاح السياسي والعسكري على مر سنين القضية، ولكن سحبًا لذرائع الاحتلال، ومنعًا لوقوع مذبحة قد تبدو مبررة للجماهير العزلاء، فإنه يجبُ الالتزام التام بسلمية الفعالية، فيمنع جميع المشاركين في المسيرات من حمل أي نوع من أنواع السلاح، ولا يُستبعد أن يدس الاحتلال عملاء يحملون السلاح ويطلقون النار من بين الجماهير، وعليه فإن كل من يتم العثور على سلاح بيده في مسيرات العودة فهو عميل للاحتلال، رضي أم سخط.

ثالثًا: التحرّك المتزامن على جميع الجبهات الممكنة، إذ لا يُعقلُ أن تنفرد غزّة بهذا العمل العظيم، بل ينبغي أن يتحرّك الفلسطينيون من جميع الحدود التي يستطيعون التحرك منها، لا سيّما من ساحةٍ مفتوحة كسوريا، أو ساحةٍ معادية للاحتلال كلبنان، أو ساحةٍ تحت الاحتلال الفعليّ كالضفة الغربية، أو ساحةٍ ذات حدودٍ طويلة ممتدة كالأردنّ، أو ساحةٍ شديدة الاضطراب كسيناء. كلّ ساحةٍ تتحرّك ستصنع للعدوّ صداعًا حقيقيًّا، وكلّ ساحةٍ تتخلّف ستجعلُ مهمّة العدوّ سهلةً في مواجهة الساحات الأخرى، وبقدر ما تتضخّم الفعاليات وتتزامن، يضطرب العدوّ ويحار ويرتبك.

رابعًا: التدرّج والنفسُ الطويل، إذ لا ينبغي أن تكون مسيرة العودة محاولةً مُفردة، أو هبّة يومٍ واحد، ولا أعني بذلك أنني أكرهُ أن يعود الناسُ إلى بلادهم من أول ساعة، إنّما أريدُ أن يضغطوا تدريجيًّا على المحتلّ إن استطاعوا، بالحشد وزيادة الأعداد أوّلًا، وإرهاقه بالانتظار والإرباك، ثم عبور الحدود مرةً واحدة، ثم مرّة بعد مرّة إذا لم تنجح، والعودة من كل محاولةٍ إلى نقطة حشد قريبة، وهكذا حتى ينجح الأمر. فهذه العناصرُ الأربعة هي أهمّ ما ينبغي أن يضعه المنظمون والمشاركون في هذا العمل العظيم نُصب أعينهم.

نعم، ثمة مخاوفُ ومعيقاتٌ كثيرة، بعضُها كان حاضرًا منذ سنين، وبعضُها استجدّ، فمن ذلك على سبيل المثال: صعوبةُ السيطرة على الجماهير، إذ يُخشى أن لا ينتظر السابقون احتشاد الجماهير، فيسارع بعضهم إلى الزحف قبل اجتماع الكثرة اللازمة أو الممكنة، وكذلك صعوبة منع المراهقين والصغار من مناوشة العدوّ بالحجارة والمولوتوف وغير ذلك، وهذه كلّها ينبغي أن تكون في حُسبان المنظمين والمشاركين، ولا بدّ من وضع سيناريوهات تفصيلية لكل منها، وترتيب حلولٍ تتناسبُ مع تلك السيناريوهات.

ومن هذه العوائق، إمكان اختراق هذه الفعالية بمن يُفسدها، بإطلاق نارٍ من قلب المسيرة مثلًا، أو إلقاء زجاجات حارقة أو غير ذلك، بل قد يكون الأمرُ أبسط من الاختراق، إنما قد يكون بتسهيل الصهاينة وقوع مثل هذه الأشياء، ثم التركيز عليها واتخاذها ذريعًةً لضرب التحرك وإفشاله، وبقدر النشوة التي اعترتني حين رأيتُ تسجيل الشباب الغزيّ الذي أحرق الحفار الصهيونيّ منذ أيّام، فإن الأمر أثار قلقي وريبتي جدًّا، وخشيتُ أن العدوّ سمح بذلك أو رضيه ضمن خطته في مواجهة المسيرة، فعلى شباب فلسطين إذا شرعوا في المسيرة أن يتيقظوا لمثل هذا، وأن يكونوا فيه من الحازمين، لا يأخذهم فيه حياءٌ ولا تردد.

ومنها أن الصهاينة قد يتملكهم غباؤهم، فيتصدّوا للمسيرة بالقوة المفرطة، والعنف المجنون، ولعلّ لهم في أنظمة الجوار العربيّ الطاغية قُدوة ومثالًا، فقد أرخص هؤلاء المجرمون الدم، وهوّنوا على السفاحين العواقب، وهذا كله يجعلُ المسيرة أخطر وأشدّ على المشاركين، ويجعلني أكثر تحفّظًا في الدعوة إليها من حيثُ أنا آمنٌ على نفسي، بعيدٌ عن ذلك الخطر.

أيامٌ قليلةٌ تفصلُنا عن الفعالية التي أعدّ أهلُ فلسطين أنفسهم لها، لا سيّما قلعة الشجعان والأبطال "غزة"، وبقدر ما آلمُ لفوات هذا المشهدِ عليّ، فإنني رأيتُه واجبًا أن أكتب في تأييده ودعمه وتحيّة القائمين عليه، والمشاركين المرتقبين فيه، فالله معكم، وهو ناصركم ومعينكم ومعيدكم إلى دياركم بإذنه، وهو من وراء القصد.

 

أضف تعليقك