نحن أمام مشهدين مهمينين يؤكدان تلك المعاني التي أشرنا إليها لدى هذا الشباب؛ في محاولة التمسك بأهداف ثورة يناير وشعاراتها، والتأكيد على زخم تلك الثورة والعمل على استئنافها من جديد. ولا يزال بعض هؤلاء يقدم موقفا نقديا لمن تسموا بالنخبة، بل وينتقدون أساتذة لعلم السياسة مثلوا خيانة للثورة وقضية التغيير.. ها هو مشهد أستاذ في العلوم السياسية تحول إلى إعلامي. وبدلا من أن يكون رافعة علمية للإعلام، فإذا به يدخل في جوقة المطبلين والمبررين؛ يلوك كلام الإفك بلسانه ويدوس على مفاهيم السياسة الحقيقية بأقدامه. يفعل كل شيء إلا احترام العلم، وما يحمله من مفاهيم تعلمناها في أصولها وعرفنا شروطها، ونراه يمثل أهم نماذج العلوم السيسية في سقوطها المروع وانحدارها الأخلاقي بالرسالة والوظيفة. فهذا زميل له كان يغبطه على شهرته يحمد الله الآن أنه ليس مثله، وأن الله سبحانه وتعالى رزقه الثبات على موقفه بينما انحدر هذا الأستاذ إلى أسفل سافلين.. سقوط عالم سياسة في ساحة السياسة. ها هو زميل ذلك الأستاذ الشاب في حقل العلوم السياسية يحكي بعضا من قصته كما كتبها:
"وطبعاً.. لما نجم هذا "الأستاذ" لمع بعدما رجع من أمريكا، وأصبح صاحب مقال رأي يومي في جريدة الشروق ثم الوطن، ثم صاحب برنامج تلفزيوني له متابعون بعشرات الآلاف، تمنيت لو كان لي حظ مثل حظه، أو نصيب مثل نصيبه.. الفترة من 2010 إلى 2013 مع انفتاح المجال السياسي كانت فترة انتشار إلى حد ما بالنسبة لي طلعت فيها في التلفزيون والإذاعة.. وكانت لي حوارات ولقاءات مع بعض المواقع والصحف، واعتقدت أن هذا الموضوع سيستمر إلى ما شاء الله، لكن كان فيه تعويض معنوي كبير بالنسبة لي.
الفترة من بعد 2013 وحتى الآن كانت فترة فاصلة وحاكمة، أعادت ترتيب بعض الأولويات، وأعادت إليّ ما يمكن أن أسميه "التموضع الذاتي". اكتشفت أن كل الناس ممن كنت أحسدهم على ما وصلوا إليه من شهرة أو مال أو مناصب، آثرت الصمت، خوفاً على ما وصلت إليه، ومنهم من كانت له انتماءات فكرية جعلته يسير في ركاب نظام ما بعد الثلاثين من (حزيران) يونيو ويكون من بين عرابّيه، ومنهم من وقف مدافعاً ومنافحاً عنه وسخّر كل إمكاناته وقدراته البلاغية دفاعاً عن النظام وتبريراً لممارساته وسياساته، بل وانتهاكاته وجرائمه ومذابحه.
في هذه اللحظة وجدت نفسي بين عدد محدود من بين خريجي الكلية، ربما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ممن رفضوا ما حدث، ولم يتهربوا من تسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة دون خوف أو مواربة، ومن توجيه سهام النقد لكل من أخطأ، سواء فيما قبل الثلاثين من (حزيران) يونيو من جانب الإخوان، أو بعده من جانب نظام ما بعد هذا التاريخ، خاصة مع تكرار المذابح المؤسسة لهذا النظام، مما لم يكن من المقبول السكوت عنه، أو الرضى به، ولا بد أن يكون ثمة مسار للعدالة الانتقالية للحساب على كل الجرائم اللي ارتكبت منذ ثورة يناير وحتى الآن، بغض النظر عن مرتكبها.
ساعتها.. أدركت حكمة ربنا أنني لم أتبع المسار اللي حلمت به وحزنت لعدم الحصول عليه، لما اكتشفت أن كل من سلكوه فرض عليهم مواءمات وتنازلات فيها خيانة لله وللإنسانية وللضمير، وتفريط في أمانة الكلمة. في هذه اللحظة أدركت أني يمكن أكون أفضل من كل تلك النماذج والأسماء البراقة اللامعة، ليس كشخص، وإنما كنموذج لإنسان عادي ليس له سند من نفوذ أو منصب أو مال وفير، لكنه يسعى إلى قول الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويحتسب ذلك لله، رغم ما يمكن أن يتعرض له من أذى، لكنها كلمة الحق التي لا يمكن النكوص عنها، أو غض الطرف عنها. أدعو الله أن يثبتني على قول الحق والعمل به، وأن يحسن خاتمتي، وأن يجعل عملي خالصاً لوجهه.
هذه أفكار ترد على خاطري حينما أرى المستوي البائس من النفاق والتدليس ما وصل له "الأستاذ الإعلامي"، الذي أصبح يجلب عليه سخرية الجميع، لا منه فحسب.. هذا ما أصبحت بسببه أحمد ربنا وأقول: "الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من خلقه".
هذا بعض ما قال زميل الأستاذ، قمت بصياغة بعض كلماته القليلة بتصرف بسيط. مشهد ناقد لزميله الذي باع، وحمد الله على ثباته.. هو معبر عما تبناه من مواقف تعبر عن سياسة القيم وقيم السياسة.
أما المشهد الآخر الذي نركز عليه، فهو مشهد لأحد باحثي علم السياسة البارزين المتميزين، رزقه الله بصيرة إيمان وبصيرة علم وتحليل. وهو لم يكتف بنقد هؤلاء، ولكنه توجه بخطابه إلى شباب الباحثين يبشرهم بالأمل وهو آنذاك المسجون، يصدع بطلب الحرية لبلده لا لنفسه، يذكرهم بما يجب عليهم من اهتمام ليحافظوا على ثورتهم ويحموا مطالبهم، جامعا بين النقد اللاذع والرؤية البنائية الدافعة التي تمثل قمة الإيجابية. هذا بعض من كلامه في مطالبة الشباب بإيجابية أكبر لتأثير أكبر:
"آن الأوان لتجديد الاهتمام بـ"الناس" كوحدة أو مستوى مهم للتحليل تم تهميشه لعقود، وقد أتت الثورات العربية الشعبية والثورات المضادة لتفرض علينا ضرورة إمعان النظر في هذا المستوى الخاص، بالجماعات والطوائف والتنظيمات والجماهير الغفيرة، والحالات السائلة، ويجب علينا ونحن نطالب غيرنا (من خاصة الحركيين والمباشرين للفعل العام) بالاجتهاد على عقولهم وتطوير أنفسهم، أن نجعل من أنفسنا نحن الباحثين شيئا لافتا للنظر والتجديد، يلاحظه الآخرون ونشيع ذلك المعنى في أجوائنا وفيما بيننا..
ما أقترحه على حضراتكم، هو التفكير في تطوير الهدف المنشود من المساعي التي ننخرط فيها، فلعله لم يعد كافيا أن ينحصر تفكيرنا في زوال هذا الشخص أو ذاك مع بقاء بقية العوامل كما هي عليه. أقترح أن نمد النظر إلى شيء وراء ذلك وأشياء على جوانبه. الأصل في التغيير التدرج والتراتب، والله وحده يفعل ما يشاء، وما شاء الله كان. فالقادم قريب من الحاضر، والأمة المستباحة من جهة، والناهضة المنتفضة من جهة أخرى، الأمة المحاصرة المجتاحة من جهات عدة داخلها وخارجها، والمقاومة المحتضنة.. منذرة بانفجارات في مواضع عدة".
تراوح شباب الباحثين في موقفين ونموذجين متكاملين يعبران عن نضج الشباب وثبات الموقف والرؤية المستشرفة لمستقبل الثورة والتغيير. سنستكمل تلك الصورة التي تتعلق برحلة الشباب في النقد الذاتي، والمراجعة ذات القيمة العالية، فيعبرون عن جيل سيكون له الشأن في مواصلة عملية التغيير واستئناف الثورة. يرون أن النقد الذاتي أهم أبواب الثورة والنهوض، والبناء الإيجابي أهم مقاصد ومفاتيح التغيير.. جيل الأمل الناضج والعمل الفعال المصلح الصالح.
أضف تعليقك