لم يعرف التاريخ الأميركي رئيسًا بهذا المستوى من الفظاظة التي يتميز بها ترمب، وليس هذا بالتأكيد تعبيراً عن القوة، فقد ورث إمبراطورية في حالة تراجع، وليست في حالة صعود، وقد سبقه رؤساء كانت أميركا في عهدهم أكثر قوة بكثير مما هي عليه الآن؛ لكنهم لم يكونوا بهذا المستوى من الفجاجة في التعامل مع الآخرين، سواء أكانوا من القوى الكبرى أم من الدول الأقل من ذلك.
هذا يعني أن ما يفعله الرجل يعبّر عن طبيعة شخصية من جهة، ومن جهة أخرى عن ضحالة في الدبلوماسية وفي إدراك التعقيدات السياسة التي لا تقوم على مبدأ «خذ وهات»، بل على معادلة الموازنات. وهذا لا يرتاح عملياً إلا لمساعدين من اللون ذاته، كما هو حال مندوبته في الأمم المتحدة، وكما هو حال وزير الخارجية الجديد (بومبيو)، ومستشار الأمن القومي الجديد (جون بولتون)، بينما يستبعد آخرين يتخذون المسار الطبيعي في الدبلوماسية كما هو حال تيلرسون على سبيل المثال، وقبله وبعده آخرون.
أليس مثيراً أن يصل الحال برئيس «السي آي أيه» السابق، جون برينان، حد مخاطبته (أي ترمب) قبل أيام بالقول: «حين يتضح النطاق الكامل لفسادك وانحطاطك الأخلاقي وفسادك السياسي، ستأخذ مكانك المناسب كديماغوجي منبوذ في مزبلة التاريخ»؟!
المعركة التجارية التي فتحها مع الصين وأوروبا تعبّر عن طبيعة شخصيته، وقبل ذلك مع باكستان، وكلامه الموجّه لدول الخليج حول «دفع كلفة الحماية»، إلى جانب الخطاب الموجّه لكثيرين عبر مندوبته (هايلي) التي طالبت بربط المساعدات بالتصويت مع أميركا في الأمم المتحدة، وهو قال ذلك سابقاً، وهدد السلطة الفلسطينية بوقف المساعدات، متجاهلاً طبيعة السلطة وأين تذهب تلك المساعدات.
هل يُعقل أن يقول الرئيس الأميركي عن دولة ما إنها «ثرية وسوف تعطينا جزءاً من ثروتها»، بدلاً من أن يتحدث عن المصالح المشتركة في صفقات السلاح والتجارة والاستثمار؟!
إنه رجل أرعن، ولا يمكن للاستثمار معه أن يفضي إلى نتيجة، ليس لأنه سيصطدم أكثر فأكثر بالدولة العميقة، إذا ما أصر على هذه الطريقة في ممارسة السياسة، بل أيضاً لأن وضع دولته لا يجعله قادراً على تنفيذ الكثير من الوعود التي يطلقها ذات اليمين وذات الشمال. والعالم اليوم لم يعد مزرعة لأميركا تديرها كيف تشاء، فهناك قوى كبرى، بل أقل من كبرى تتحدى أميركا، وتقول لها «لا».
جاءت الدولة العميقة بأوباما بصفته أول رئيس أسود من أجل إخراج البلد من حالة العزلة التي وضعها فيها جورج بوش الابن، بعد مغامرات غزو العراق وأفغانستان، وهي ذاتها (الدولة العميقة) كانت تريد هيلاري كلينتون بصفتها أول امرأة تتبوأ منصب الرئاسة للهدف ذاته، ولم تتخيل أن يفوز ترمب بالمنصب، وهي تبعاً لذلك معنية باستمرار الاستراتيجية نفسها في التصدي لصعود الكبار، وكسب الآخرين إلى جانبها وتجنّب العزلة؛ لكن ترمب هذا يفعل العكس، إذ يضع برعونته الحَبّ في طاحونة القوى الكبرى بدلاً من أن يوقف تقدمها، خاصة الصين وروسيا، لولا غرور القوة التي يتلبس به بوتين، فيما يزيد من عزلة الولايات المتحدة ومستوى كراهيتها في العالم أجمع.
لذلك كله يبدو الاستثمار مع رجل كهذا ضرباً من التجارة الخاسرة؛ لأن مآله هو الخضوع للدولة العميقة، وإذا لم يخضع -سواء بقي أم عُزل-، فإن قدرته على تنفيذ وعوده لمن يتقربون منه بالمال والصفقات، محدودة، فضلاً عن أن حاجتهم إليه في بعض الأشياء ليست ضرورية، إذا ما تجاوزوا أوهام أن أميركا سيدة الكون التي لا رادّ لأمرها.
أضف تعليقك