• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: الدكتور علي الصلابي

عاشت الجزائر في مرحلة الاستعمار الفرنسي (1830 - 1962م) أخطر أوضاعها الأمنية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية، فكانت بحاجة إلى هيئة شعبية جامعة، تكافح للدفاع عن هويتها الحضارية العربية والإسلامية ضد المستعمِر الفرنسي. فأتى تشكل جمعية العلماء المسلمين في الجزائر شبيه بالجدار الفولاذي الحامي وحمل أعباء التجربة النضالية، فقد بذل الآباء الأوائل جهودهم وطاقاتهم للحفاظ على هوية الأمة وعقديتها، والدفاع عن الشخصية الجزائرية في وجه خطط الاستعمار التغريبية، والتصدي للخرافات والبدع التي شوهت الإسلام، وثقافة المجتمع العريقة وقيمه الحضارية.

   

أولًا: تشكل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

الاجتماع التأسيسي الأول

بعد لقاءات عدة بين عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي، تارة في سطيف وأخرى في قسنطينة، والتي كانت تركز على دراسة الوضع في الجزائر والبحث عن السبل الكفيلة بمعالجة هذا الوضع. وبعد هذه اللقاءات الممهدة فكر الشيخ عبد الحميد في أن يخطو خطوة عملية تكون تمهيدًا مباشرًا للشروع في التحضير لتأسيس هذه الجمعية، التي ظلت فكرة لم تجد طريقها للتنفيذ. وتوالت الجهود بعد ذلك لإنشاء هذه الهيئة، ويذكر الشيخ خير الدين في مذكراته أنه في عام 1928م دعا الشيخ عبد الحميد بن باديس الطلاب العائدين من جامع الزيتونة والمشرق العربي لندوة يدرسون فيها أوضاع الجزائر، وما يمكن عمله لإصلاح هذه الأوضاع.

 

وكان ممن لبى الدعوة من يمكن تسميتهم «رواد الإصلاح» أمثال: البشير الإبراهيمي، ومبارك الميلي، والعربي بن بلقاسم التبسي، ومحمد السعيد الزاهري، ومحمد خير الدين، واجتمعوا برئاسة الشيخ عبد الحميد بمكتبه، وقدم الشيخ حديثاً مطولاً عن وضعية البلاد والقوانين الجائرة التي تحكمها، ليصل بعد ذلك إلى دور العلماء في المقاومة والتضحية، ومن جملة ما قال: لم يبق لنا إلا أحد أمرين لا ثالث لهما: "إما الموت والشهادة في سبيل الله منتظرين النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين، وإما الاستسلام ومدّ أيدينا إلى الأغلال وإحناء رؤوسنا أمام الأعداء، فتكون النتيجة لا قدر الله أن يجري علينا ما جرى ببلاد الأندلس.." ثم عرض خطة عمل مؤلفة من نقاط هي:

1. إنشاء المدارس الحرة لتعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية.

2. الالتزام بإلقاء دروس الوعظ لعامة المسلمين في المساجد الحرة.

3. الكتابة في الصحف والمجلات لتوعية طبقات الشعب.

4. إنشاء النوادي للاجتماعات وإلقاء الخطب والمحاضرات.

5. إنشاء فرق الكشافة الإسلامية للشباب.

6. العمل على إذكاء روح النضال في أوساط الشعب لتحرير البلاد من العبودية والخضوع للحكم الأجنبي.

 

ومما يلاحظ هنا أن هذا الاجتماع قد سطر البرنامج الذي تستنهض به الجمعية المزمع إنشاؤها، فكأن ابن باديس أراد أن يسبق الأحداث، فحدد محاور النشاط الإصلاحي، الذي يجب أن تضطلع به الجمعية التي دعا إلى إنشائها، وفعلاً كان ذلك هو البرنامج الذي اتبعته الجمعية بعد ميلادها في عام 1931م.

تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يوم الخامس من ماي 1931م في نادي الترقي بالعاصمة الجزائر، إثر دعوة وجهت إلى كل عالم من علماء الإسلام في الجزائر، من طرف هيئة مؤسسة مؤلفة من أشخاص حياديين ينتمون إلى نادي الترقي، غير معروفين بالتطرف لا يثير ذكرهم حساسية أو تكوين لدى الحكومة، ولا عند الطرقيين، أعلنوا أن الجمعية دينية تهذيبية تسعى لخدمة الدين والمجتمع، لا تتدخل في السياسة ولا تشتغل بها.

 

الدهاء والحنكة لدى رواد الجمعية

لم يحضر ابن باديس الاجتماع التأسيسي للجمعية من الأول، وكان وراء ذلك هدف يوضحه الشيخ خير الدين أحد المؤسسين الذي حضر الجلسات العامة والخاصة لتأسيس الجمعية، يقول: كنت أنا والشيخ مبارك الميلي في مكتب ابن باديس بقسنطينة يوم دعا الشيخ أحد المصلحين محمد عبابسة الأخضري، وطلب إليه أن يقوم بالدعوة إلى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالعاصمة، وكلفه أن يختار ثلاثة من جماعة نادي الترقي الذي لا يثير ذكر أسمائهم شكوك الحكومة أو مخاوف أصحاب الزوايا، وتتولى هذه الجماعة توجيه الدعوة إلى العلماء لتأسيس الجمعية في نادي الترقي بالعاصمة، حتى يتم الاجتماع في هدوء وسلام، وتتحقق الغاية المرجوة من نجاح التأسيس، ويقول الشيخ خير الدين وأسرّ إلينا ابن باديس أنه سوف لا يلبي دعوة الاجتماع ولا يحضر يومه الأول حتى يقرر المجتمعون استدعاءه ثانية بصفة رسمية، لحضور الاجتماع العام، فيكون بذلك مدعواً لا داعياً، وبذلك يتجنب ما سيكون من ردود فعل السلطة الفرنسية وأصحاب الزوايا ومن يتحرجون من كل عمل يقوم به ابن باديس.

 

 

 

ثانيًا: العوامل التي ساعدت على تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

تضافرت ظروف عديدة وعوامل كثيرة ساهمت جميعها في إظهار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى الوجود نذكر منها:

 

الظروف التي نشأت فيها الجمعية

 

بعد مرور قرن كامل على الاحتلال الفرنسي للجزائر، واحتفال الفرنسيين بذلك استفزازًا للأمة، وإظهارًا للروح الصليبية الحاقدة التي يضمرونها للإسلام والمسلمين، كانت الاحتفالات عام 1930م. فأقامت فرنسا مهرجانات بمئوية استعمارها للجزائر واستفزت هذه الاحتفالات ضمير الأمة وفجرت فيها روح الإصلاح وطاقات المقاومة، ففي تلك الاحتفالات خطب أحد كبار الساسة الاستعماريين الفرنسيين فقال: إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم وأن نقتلع العربية من ألسنتهم.

 

وخطب سياسي آخر فقال: لا تظنوا أن هذه المهرجانات من أجل بلوغنا مائة سنة في هذا الوطن، فلقد أقام الرومان قبلنا فيه ثلاثة قرون، ومع ذلك خرجوا منه، ألا فلتعلموا أن مغزى هذه المهرجانات هو تشييع جنازة الإسلام بهذه الديار. كما خطب أحد كرادلة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية ـ بهذه المهرجانات ـ فقال: إن عهد الهلال في الجزائر قد غبر وإن عهد الصليب قد بدأ وإنه سيستمر إلى الأبد، وإن علينا أن نجعل أرض الجزائر مهداً لدولة مسيحية مضاءة أرجاؤها بنور مدنية منبع وحيها الإنجيل.

 

تعطش الشعب الجزائري لجمعية العلماء في كفاحه

 

إن وجود الجمعيات والاتحادات والنوادي المسيحية وغير المسيحية كان معروفاً في ذلك الوقت، مما دفع بالعلماء المسلمين إلى إنشاء جمعية إسلامية تحدياً للجمعيات غير الإسلامية، حتى تنظم التعليم الحر وتقيم الشعائر الإسلامية وبعض الاحتفالات الدينية، بالإضافة إلى تلك الجمعيات الدينية والثقافية، فقد كانت هناك بعض التنظيمات والأحزاب السياسية الأوروبية في الجزائر قد جذبت بعض الجزائريين للانخراط في تنظيماتها، ثم نشأت بعض الأحزاب السياسية الجزائرية لتحقيق بعض المطالب السياسية الاجتماعية. وكل ذلك ساهم في دفع الشيخ عبد الحميد بن باديس وإخوانه إلى تكوين الجمعية وقفاً للنزيف والتشتت وتقويماً للمطالب والمشروعات الاجتماعية والسياسية.

 

النهوض التربوي على أيدي رواد الجمعية

 

لقد كان لحركة ابن باديس التربوية التعليمية التي شرع فيها منذ تفرغه للتدريس بقسنطينة سنة 1913م، إثر تخرجه من جامع الزيتونة أثر عظيم في طلابه المتوافدين على رحاب جامع الأخضر بقسنطينة من كل أرجاء الجزائر.. أثر في العقول والقلوب والسلوك لم تشهده البيئة الجزائرية من قبل، مما جعل الإمام محمد البشير الإبراهيمي نائب ابن باديس في حياته وخليفته من بعده يقرر في مقدمة كتاب سجل مؤتمر جمعية العلماء المنعقد بنادي الترقي في العاصمة في سبتمبر 1935م؛ أن من العوامل الأساسية في نشوء الحركة الإصلاحية في الجزائر؛ الثورة التعليمية التي أحدثها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس بدروسه الحية، والتربية الصحيحة التي كان يأخذ بها تلاميذه، والتعاليم الحقة التي كان يبثها في نفوسهم الطاهرة النقية والإعداد البعيد المدى الذي يغذي به أرواحهم الوثابة الفتية، فما كادت تنقضي مدة حتى كان الفوج الأول من تلاميذ ابن باديس مستكمل الأدوات من أفكار صحيحة، وعقول نيرة، ونفوس طامحة، وعزائم صادقة، وألسن صقيلة، وأقلام كاتبة.

 

 

فكان التعليم الباديسي ثورة شاملة تعدّى أثرها تلاميذ ابن باديس ومدينة قسنطينة إلى قطاعات كثيرة في شتى نواحي الوطن وشتى المجالات ومن ذلك:

1. إنشاء جريدة المنتقد والشهاب وغيرهما منذ عام 1925م.

2. إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931م، وما تبع ذلك من تأسيس مساجد حرة للوعظ والإرشاد للرجال والنساء، ومدارس حرة للتربية والتعليم للبنين والبنات، وأندية للتثقيف والتوجيه للشباب.

3. اهتمام الزوايا برفع مستوى التعليم فيها، بجلب الأساتذة الأكفاء وتحسين البرامج وطريقة التعليم.

4. اهتمام السياسيين بالتعليم وعنايتهم به بعد أن كانوا يرون أن الاشتغال بالتعليم إنما يأتي بعد الاستقلال.

5. اهتمام المدارس الحكومية التي تشرف عليها السلطة الاستعمارية بالثقافة العربية الإسلامية، حتى لا تفقد مكانتها الثقافية والإدارية في أوساط الشعب الجزائري.

أثر جمعية العلماء في التغيير الفكري بين فئات الشعب

 

فقد تأثر علماء الجزائر بالحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي منذ محمد بن عبد الوهاب، وخير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، والكواكبي وغيرهم من زعماء الإرشاد والإصلاح في الشرق الإسلامي وغربه، فكانت لمدارس الإصلاح تأثير مباشر في زعماء جمعية علماء المسلمين.

 

 

 

وخلاصة القول: إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد نشأت في ظروف غاية الصعوبة، وواجهت الكثير من المؤامرات والمناورات من الاستعمار وأعوانه وأذنابه. وقد رأت الجمعية النور في وقت اشتدت فيه وطأة الاستعمار وتفشى فيه الجهل، وعمَّ الفساد، وخالط الدين كثير من مظاهر الجهل والدجل والشعوذة، وحوربت فيه اللغة العربية في أحد معاقلها. وقد اضطلع برسالة الجمعية رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم تكن الظروف مواتية، ولا المهمة سهلة، ولا العدو هينًا، وكان سلاحهم الإيمان والصبر والاتكال على الله، فكانوا بحق خير خلف لخير سلف.

أضف تعليقك