• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: عادل أعياشي

يوم الأرض الفلسطيني، هي الأرض عندما تتعرّف على صاحبها من رائحة الدم، هو العشق الذي يأبى أن يُفصح عن كل أسراره وخباياه إلا عندما يتعلق الأمر بحب الفلسطيني لأرضه، فحينئذ يتجلى هذا العشق في أبهى صوره وأصدق تجلياته. نختزل كل الكلمات التي مهما عبّرنا بها عن واقع الحال الفلسطيني فلن نفيه حقه أو بعض حقه، لنقول إجمالاً بأن الأرض الفلسطينية بترابها وثمارها ومياهها وطيورها وكل ما فيها، قد تجمعت في قبضة رجل ليس ككل الرجال، قبضة فيها من الحب والوفاء ونكران الذات ما تعجز البشرية جمعاء عن تفسيره، قبضة هزمت جبروت كيانٍ غاصب يكاد يختنق وهو يحاول الانفلات مذعوراً من أصابع فولاذية تنغرسُ بالدم في شرايين أنفاسه، هو رجلٌ يحمل بين نظراته تاريخاً حقيقياً عايناه في ذهول بأمّ أعيننا ولم نطالعه في المجلّدات أو نسمعه من الأقاويل، يكاد يختفي نظيره من هول ما قاسى من العداء والكيد والتعذيب عمراً بأكمله انتقاماً منه على ثباته وتعلّقه بأرضه وشرفه.

أحمد ياسين، أسطورة المقاومة الفلسطينية، الرجل الذي زحزح الاحتلال الإسرائيلي ودبّ الرعب فيه وهو مقعد على كرسي بسيط لا يتحرك من أطرافه سوى لسانه الحيّ بذكر الله، الرجل الذي شكّل وحده على مدى عقود طويلة من النضال المرير شوكة في حلق المحتل لم تنسل إلا بعدما تأكد أن صاروخه الموجه الجبان قد مزّق الشيخ أشلاء مبعثرة وهو عائد من صلاة الفجر، فشهدت الشمس وهي تطلع من مشرقها على جريمة نكراء اهتزّ لها ضمير الإنسانية العاتب على قلوب البشر.

استطاع ابن قرية الجورة الواقعة جنوب قطاع غزّة بما يزخر به من شخصية قوية وفصاحة عتيدة وفن الخطابة، أن يشكل طاقة عظيمة من الإلهام التحرّري والصفاء الروحي أثّرت بشكلٍ كبير في الأوساط الشبابية آنذاك، ليرقى إلى درجة الداعية المربي رغم معاناته من شللٍ كامل في جسمه، إننا عندما ننظر إلى صورة الشيخ أحمد ياسين فلا نحسبه أبداً من الأموات، نكاد نصدق أن الرجل لم يمت فسيرته ما تزال محفورة في قلب كل غيور على الحق الفلسطيني والنخوة العربية إلى أبد الآبدين، وكأنها أمامنا مجسدة صوتاً وصورة.

ولا أعتقدُ أن توالي الأيام وتعاقب السنوات كفيل بأن يدفن سيرة الشيخ في غيبات النسيان، أو يحبس الأعين من ذرف الدموع وهي تتطلع إلى وجه صبوح متلألئ تتجسد فيه كل حبة من تراب فلسطين الحبيبة، وتتراءى من ثنايا قسماته قبة الصخرة وشمس الحرية، وأحياء القدس القديمة، وأعلام الوطن، وبيت المقدس، وضحكات الأطفال وابتسامة الفدائيين، هذا الرجل لم يمتْ، فكيف يموت التاريخ المخطوط بالدم، المعبّد بالعزة والإباء، المنقوش على صفحات القلوب جيلاً بعد جيل، كيف يموت من زرع الصدق ونثر الحب، وأحيا معنى الشهامة والبطولة، وشكل العِرق النابض المتبقي من أمة قضت منذ عقود بموتٍ سريري، كيف يموت من ترتعد بذكرِ اسمه أطرافُ المحتلين كأنه زلزالٌ مدمّر أو كابوسٌ مؤرق، فيهرعون إلى الكهوف والملاجئ خوفا ورعبا كارهين سماعه مثلما يكرهون قُدوم شبح الموت.

إنَّ من يموت فعلا هو الجسد العابر، ومن يبلى هي المادة الجامدة، ومن يُنسى هم أولئك الذين لم يتركوا بعد رحيلهم أثرا يُذكرون عليه، أو موقفا يُحسب لهم، أو شيئا ينتفع الناس منه، فليس لهم في كتاب التاريخ من سطرٍ ولا حتى كلمة، ناهيك عن أولئك الذين خلّفوا من العار والذل ما تُبنى به الجبال وتُعكر به البحور، فهؤلاء لا يتردد التاريخ لحظة واحدة من أن يلفظهم إلى العدم كما يلفظُ البحر قاذوراته وأوساخه.

إنَّ أمثال الشهيد أحمد ياسين يأبى الموت أن يخطف أرواحهم إلا بعد أن ينصاع قهراً لإملاءات القدر، وإن كان الشيخ قد لفظ آخر شهقة له في الحياة ليُصنّف في عداد الشهداء، إلا أنه صار بعد ذلك أقرب إلى الحياة منه إلى الموت نفسه، ولا أعتقد أن بيتاً واحداً من بيوت فلسطين يخلو من صورة الشهيد أحمد ياسين معلقة على الجدران والصدور، فهو باقٍ ما بقي العهدُ بتحرير الأرض قائما، وباقٍ ما بقي الوعد بالعودة راسخا، وباقٍ ما بقي اسم فلسطين محفوراً في وجدان كل طفلٍ ارتوى من ماءها وتنفس من هواءها وتعلّم حروفها حرفاً حرفاً فنسي اسمه وتذكرها.

إن العلاقة التي تربط الشهيد أحمد ياسين بفلسطين هي أكبر من علاقة إنسان بوطنه، أو صاحبِ أرضٍ بأرضه، إنها امتدادٌ عبر أجيال متعاقبة تتوارث ذاك العشق الأبدي الذي زرعه الشيخ في ضمير كل فلسطيني فيما يُشبه صفة إنسانية تنتقل عبر الجينات، إنها تمازج الروح مع التراب في كائنٍ مُوحّد تعجز كلُّ قوى الأرض عن فصل مكوناته، ورغم أن الإنسان يُعاني في علاقته هذه من الفقد والآلام ما يعاني في مسيرة التضحية الطويلة، إلا أنّ النصر اليقين لا يمكن إلا أن يكون هو النتيجة الحتمية لإيمانٍ عميقٍ بالقضية. 

إن رحيل الشيخ أحمد ياسين بتلك الطريقة المؤلمة في ذاك اليوم المهيب لهو انتصار كبير دُوّن بماء الذهب في صفحات النضال الفلسطيني، وإنه لوصمة عار تُضاف لشعور الذل والمهانة الذي شعر به المحتل الإسرائيلي وما يزال وهو يُصوّب صاروخه الحقير نحو شيخٍ ضريرٍ مُقعدٍ على كرسي متحرك لا يكاد يرى طريقه، فكانت مرارة الموقف وفظاعته كفيلة بأن تنسيه طعم انجازه، وفرحة التخلص من رمزٍ هو أكبر من أن تربطه بفلسطين مسألة حياة أو موت، وإن غاب الشيخ إلا أنه حاضرٌ في كيان كل عربي ومسلم، وفلسطين باقيةٌ لا تموت.

أضف تعليقك