• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم: سماهر الخزندار

 

في يوم غضب هادر في الانتفاضة الأولى، أخبر أحدهم أبي أن أخي الأكبر مني يشارك في المظاهرات ويتصدر الجموع، يومها بقي أبي يجوب البيت في انتظاره، وحين حضر، سحبه للمر الضيق وسط البيت وراح يصفعه الصفعة تلو الأخرى، وأخي يطأطئ رأسه صامتاً بلا أدنى ردة فعل، كان أبي يوبخه ويحذره من إعادة هذا العمل الخطر مرة أخرى، وكان يطالبه بالرد عليه، لكن أخي بقي صامتاً، فأعاد أبي صفعه، وتركه بسبب توسلات أمي، وهو يرتجف انفعالاً.

 

قد يكون هذا المشهد معتاداً في بعض البيوت لكنه كان صادماً بالنسبة لنا جميعاً، لأن أبي الحليم الصبور الوقور، لم يمد يده قبل ذلك الموقف على أحدنا ونحن عشرة! لم يكن مشهد الضرب وحده هو الذي صدمني، بل كان الخوف الذي رأيته يعلو وجه أبي لأول مرة في حياتي، فبعد أن صفعه الصفعة الأخيرة، نظر له مذعوراً ولا أعرف كيف لكنه أيضاً بدا فخوراً.

 

بعد كل هذه السنوات، أستطيع اليوم أن أفهم انفعال أبي الكبير، أستطيع أن أجد له عذراً لعنفه الصادم، أستطيع أن أفهم لِمَ كان خائفاً ولِمَ بدا فخوراً، بعد كل هذه السنوات أستطيع أن أرانا جميعاً مثل أبي، نحن جيل الانتفاضة، الذي كان يحطم كل القواعد والمسلمات، والذي مثله أخي في ذلك المشهد، خائفين أن يعيد أبناؤنا ما فعلناه، ويعرضوا أنفسهم لخطر الإبادة والإصابة والاعتقال، ثم يلاقوا ما لاقيناه من الإحباط والخذلان والنسيان والضياع بين القيادات المنقسمة والمتناحرة.

 

أخي الذي نال كل تلك الصفعات، وبقي صامتاً، وهو يضمر أن يكمل ما بدأه، دفع ثمن قراره هذا حين اعتُقل ودخل سجون الاحتلال، ثم خرج ليأخذ صفعات أقسى من الواقع المؤلم الذي وصل له رفاقه في المقاومة الشعبية؛ لذا لن يكون راضياً عما حدث ويحدث على الحدود، ليس لأنه جبان أو متخاذل، ولا أنه يريد أن يحجر على حق هذا الجيل في التعبير عن ذاته وغضبه، بل لأنه لا يثق في إسرائيل، ولا يثق في القيادات التي تحشد للمسيرة، ولا أولئك الذين يعارضونها.

 

لو سُئل أبطال انتفاضة الحجارة الأولى الحقيقيون عن مسيرة العودة الكبرى، على الأرجح سيرفوضوها، ثم سيتحولوا تلقائياً لشتم لاعبي الواقع السياسي الحالي المتحلل في فلسطين، ويحملوهم المسؤولية، ويتهموهم باستغلال دماء الشهداء وعذابات الجرحى من أجل مكاسب رخيصة، سيسترجعوا بأسى ماضي كفاحهم الأعزل، وكل تضحياتهم التي غيرت مجرى حياتهم، ثم سيرفعوا رؤوسهم وسيصبوا غضبهم على كل الأطراف، أو سيشل الحزن ألسنتهم فيبتسموا ويغادروا صامتين.

 

لكن الشباب الصغار الذين يعيدون نفس قصتنا هذه الأيام، لا يرون أن ما فعلناه كان كافياً، وربما يلقون علينا باللوم لأننا لم ندافع عما حققناه من مكاسب لقضيتنا. الحقيقة أننا لم نكن مختلفين عنهم نحن أيضاً أردنا أن نخوض معركتنا بعيداً عن وصاية أهالينا، وكنا نظن أنهم تهاونوا في الدفاع عن حقهم وحقنا في الأرض، أو على الأقل كنا نرى أننا قادرين على تحقيق ما عجزوا عنه لأننا أقوى وأقدر.

 

وأنا أتأمل كل هذا، شعرت بأن فلسطين ليست مجرد بلد محتل موجود نظرياً على الخريطة، شعرت بأن فلسطين كائن حي، عنده جسد وعقل وروح وغريزة بقاء جبارة، ففي كل مرحلة من مراحل النضال الشعبي الفلسطيني، حين تضرب العتمة أحلك سحبها، كانت دماء فلسطين تفور شباباً صغاراً جامحين جسورين، لتضيء الطريق الصحيح وتعيد الشعب المشرد المشتت لصوابه ولقضيته.

 

نحن غارقون في حب هذه الأرض، ولا قدرة لدينا لنقاوم ذلك الحب، مستعدون دائماً لنموت من أجلها؛ نتوارثه عبر الدماء، من بين كل جيناتنا، يسيطر دائماً جين التمرد والنزق، إنها لعنة مزدوجة، نحن لا نستطيع تجازوها، وعدونا لا يستطيع أن يقتلها فينا.

 

 

على الحدود، دفقات دماء جديدة تسري في تراب فلسطين، شباب عصري خفيف الظل وجميل وذكي، كنا نتندر بحبهم للسلفي، وننتقد غرقهم في ذاتيتهم وانشغالهم بالعوالم الافتراضية عن الواقع المؤلم، ونطلق عليهم ألقاباً، وها هو "الجيل الكيوت" يستخدم علامة الانتفاضات الفلسطينية المسجلة-الحجر والكاوشوك- ويخرج ليقول للعالم أنه جدير بالحياة، و ليدافع عن إرادته، ويقاتل بدمائه من أجل حقه في حياة كريمة.

 

 يبني عليها مواقف مستقلة واضحة الأبعاد، وأهم ما يميزهم عنا أنهم كسروا عادة تأليه الرموز، التي جعلتنا نودِع ثقتنا كلها في قياداتنا، دون أن نشك لحظة في إخلاصهم وبطولتهم وثباتهم أمام إغراءات السلطة والنفوذ، ليثبت الزمن أننا عشنا واهماً قاتلاً، كاد أن يُجهز على ما تبقى من قضية الشعب الذي خذله الجميع حتى أولي أمره.

 

لأجل كل هذا أتفهم أن علينا أن نعطيهم الفرصة، دون محاولات إضافية لفرض الوصاية، ربما كان لديهم المفتاح الضائع الذي سيخرجنا من تيهنا ليعيدنا لجوهر قضيتنا، لكن أريد منهم أن يفتحوا صدورهم لرسالة نرسلها لهم من شبابنا حيث كنا في مثل سنهم: لا تقاتلوا من أجل المكاسب المادية أو المؤقتة، بل قاتلوا من أجل حياة تستحقونها؛ المتسلقون مرض كل الثورات، لا تبتئسوا لأنهم يتسولون المكاسب، لكن الفظوهم لا تدعوهم بينكم؛ لا تسمعوا كلام الكبار لكن اسمعوا منهم؛ لا تدعوا أحداً يفكر نيابةً عنكم، لكن ضعوا أفكاركم دائماً قيد التجربة قبل تبنوا عليها مواقف؛ القادة ليسوا خطوطاً حمراء، كلنا أمام الوطن سواء؛ حاربوا الفساد حولكم كما تحاربوا عدوكم ليس هناك فرق.

أضف تعليقك