لم يكن تصريح ترامب بالخروج من سوريا مفاجئًا للأوساط السياسية الدولية والإقليمية فحسب، بل كان مفاجئًا قبل ذلك للأوساط السياسية الأمريكية أيضًا، إن كان في الخارجية أم في الدفاع، رغم أن ترامب قد أعاد برمجة المسؤولين في المؤسستين وفق هواه.
لكن ترامب لم يدع المجال مفتوحًا للتكهنات، حول سبب حديثه عن الانسحاب، فقد أراح الجميع بقوله إن: “المشاركة الأمريكية في سوريا مكلفة وتفيد مصالح دول أخرى”. مضيفًا: “نعمل على خطة للخروج من سوريا، إذا كانت السعودية ترغب ببقائنا فيها فيجب عليها دفع تكاليف ذلك”. وزاد الأمر وضوحا بقوله: “المملكة العربية السعودية مهتمة جدًا بقرارنا، وقلت لهم حسنًا، إذا أردتم أن نبقى فيتعين عليكم أن تدفعوا”.
لا أحد يعرف ماذا دار خلف الكواليس بعد ذلك، حين أعلن ترامب نفسه تمديد وجود القوات الأمريكية في سوريا (“سي أن أن” سّربت أنباء الاجتماع المتوتر مع الجنرالات الرافضين للانسحاب)، فيما كان ثبت في الأثناء أن القوات الأمريكية هناك تعزز من تواجدها العسكري، بتوسيع قاعدتين عسكريتين، وبإضافة أعداد جديدة من الجنود.
بعد ذلك بيومين جاءت المتحدثة باسم البيت الابيض سارة ساندرز لتقول للصحافيين: “نريد التركيز على نقل (المسؤوليات) الى القوات المحلية لضمان عدم عودة ظهور داعش، وقد حققنا بعض التقدم”. وأضافت: “كما قال الرئيس منذ البداية فهو لن يضع جدولا زمنيا عشوائيا. هو يقيّم الوضع من منظار الفوز بالمعركة، وليس من منظار مجرد اطلاق رقم عشوائي، بل التأكد من أننا ننتصر، ونحن نفعل”.
ليس من المستبعد بالطبع أن يكون في تصريح ترامب بعض الجدية، فهو جاهل بأبجديات السياسة وتعقيداتها، وحين يطلق تصريحًا ما دون الرجوع للجهات المعنية، فليس معنى ذلك أن الأمر قد حُسم، وهو أصلا لا يجد مشكلة في التراجع عما يقول، لكن التمعن في الطبيعة الابتزازية للرجل، يشي بأن أصل الفكرة إنما كانت الابتزاز، والبحث عن مصدر تمويل لوجود قواته، وهو ما يبدو أنه نجح فيه سبيا.
يعيدنا ذلك إلى أصل الاستراتيجية الأمريكية في سوريا، والتي اتضحت منذ العام الأول للعسكرة، وخلاصتها إطالة أمد الصراع لاستنزاف الجميع في سوريا (ربيع العرب، إيران، حزب الله، تركيا)، فضلا عن تدمير سوريا، وكانت تلك استراتيجية صهيونية في واقع الحال، تمت ترجمتها بحرمان الفصائل السورية من السلاح النوعي القادر على الحسم، والاكتفاء بما يمنحها القدرة على استمرار الحرب لا أكثر. وقد تم منع السلاح النوعي بالضغط على جميع الداعمين للثورة.
على أن تلك الاستراتيجية ما لبثت أن تطورت، إثر التدخل الروسي الذي استحسنته واشنطن، وبالطبع لأن استنزاف روسيا أمر مهم، وقد عبر أوباما عن ذلك بالقول إنه ليس معنيا بإخراجهم (الروس) من ورطتهم.
صحيح أن ضرب داعش كان جزءا مهما من الاستراتيجية الأمريكية، وهي التي كانت المساهم الأكبر في ضربه في العراق، ولكن من قال إن الروس وحلفاءهم كانوا سيقصّرون في هذا المضمار (في سوريا)، لكن التواجد هنا صار جزءا مهما من تلك الاستراتيجية عبر الأكراد دون شك، وقبل أسابيع كان وزير الدفاع الأمريكي يعلن أن بلاده تسيطر على ربع التراب السوري، من دون أن يخرج ذلك عن إطار الاستراتيجية الأصلية في إطالة النزاع واستنزاف الجميع، وبعديد قوات لا يتجاوز (2000) جندي، من دون أن يعني ذلك عدم زيادتهم لاحقا.
لذلك كله، لا يبدو الحديث عن سحب القوات الأمريكية واقعيا في القريب، والسبب أن مؤسسات الدولة العميقة في الولايات المتحدة لن تمرر قرارا كهذا، وهي التي تعتبر التصدي للصعود الروسي جزءا مهما من استراتيجيتها، وكذلك سوريا جزء مهم، فضلا عن المطالب الصهيونية بتقليم أظافر إيران في سوريا أصلا.
والخلاصة أن المستنقع السوري لا زال يستقطب المتصارعين، وهو ما تدركه روسيا وإيران وتركيا، ويدفعها معا إلى البحث عن مخرج، ويعزز من التعاون فيما بينها، لكن يبقى من المشكوك فيه أن تفضي هذه الجهود إلى حل سريع، لا سيما أن موسكو وطهران لم تقدما حتى الآن أي رؤية مقنعة تمنح الأمل للشعب السوري؛ ما يعني استمرار الصراع، حتى لو حرموا الفصائل السورية من المساحات التي تهيمن عليها تباعًا، لأن الصراع سيتواصل بأشكال عديدة في زمن العنف الرخيص.
أضف تعليقك