يذخر تاريخنا الإسلامي بنماذج كثيرة من الأفراد، الذين تجلَّت في حياتهم معالم البطولة، والعطاء، والعبقرية الخارقة، والعمل الدؤوب البنَّاء المثمر، مع تكامل في الصفات الشخصية، والمواهب التعليمية والتربوية، ومن هؤلاء الأعلام " الصحابي الهمام" معاذ بن جبل رضي الله عنه.
سيرته
هو معاذ بن جبل بن عَمرو الأنصاري الخزرجي، وُلد في المدينة المنورة قبل الهجرة بعشرين سنة، وشهد وهو شابٌّ بيعة العقبة الثانية مع الأنصار.
عُرف ـ وهو شاب ـ برجاحة عقله، وعمق تفكيره، وبعد نظره، مع ذكاء عجيب، وقوة حفظ قلَّ مثيلها، وشجاعة ضاهت شجاعة كثير من الناس.
لزم معاذ رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وتعلق قلبه بحبه تعلقاً شديداً، فكان يكثر من مرافقته، ويسأله في ذكاء عجيب، وفقه عميق، وبُعد نظر، وطلبٍ لاستخراج أغوار الأمور، بتيقُّظ ونباهة، مما جعله واحداً من أشهر من حفظوا القرآن وقرؤوه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل: إن رجلاً فطناً حفظ القرآن وقرأه في العهد النبوي، فمعنى ذلك أنه كان عليماً بما فيه؛ لأن الحفظ يومئذ إنما كان عن دراسةٍ ومعرفة بالمناسبات، وبأسباب النزول، فهو كما صار يقال بعد ذلك الزمن: حافظ ومفسر وفقيه.
ومن أجل هذه المنزلة العلمية أعلن النبي صلى الله عليه وسلم حبه لمعاذ قائلا: يا معاذ، والله إني أحبك، لا تدعنَّ أن تقول عقب كل صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.
وروي أن الأوس والخزرج تفاخرت فيما بينها، فقالت الأوس: منَّا غسيل الملائكة: حنظلة الراهب، ومنا عاصم الأفلح: الذي حمَت النحل جسده من أن يشوهه المشركون، ومنا ذو الشهادتين: خزيمة بن ثابت، ومنا الذي اهتز عرشُ الرحمن لموته: سعد بن معاذ. فقالت الخزرج: منا أربعة قرؤوا القرآن على عهد رسول صلى الله عليه وسلم: زيد بن ئابت، وأبو زيد، وأبيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، ومنا الذي أيَّده الله بروح القدس: حسان بن ثابت شاعر الدعوة والمنافح عنها.
شجاعته
كان معاذ من خيرة الداعين إلى للإسلام والعاملين له والمدافعين عنه، والحريصين على إعلاء كلمته في السراء والضراء، فهو إلى جانب كونه أحد علماء الصحابة الأفذاذ، وأنشطهم في الدعوة إلى الله تعالى وتعليم الناس وإرشادهم، كان يحضر الغزوات والمشاهد كلها مع النبي دفاعاً عن الإسلام ونشراً لرسالته، وأول هذه المناسبات والمشاهد التي حضرها: يوم بدر، وما أدراك ما يوم بدر، الذي اطَّلع الله تعالى على من حضره من الصحابة وقال ـ كما صح عن النبي عنه: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم .
كما حضر معاذ غزوة أحد، والأحزاب، وكان ممن حضر بيعة الرضوان يوم الحديبية، وعاهد فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم على الشهادة في سبيل الله تعالى.
وهو أيضاً ممن حضر غزوة خيبر، ثم شهد فتح مكة، ثم حضر ما تلاه من المشاهد الكريمة.
ويا لها من مناقب سامية كان يتمناها العديد من الأصحاب الكرام، الذين لم تُمكِّنهم ظروفهم من كل ذلك.
بعد أن توفى النبي صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة، رأى معاذ رضي الله عنه أن تكون له مشاركة في توصيل الإسلام إلى بلاد الشام وتبليغه للناس، فجاء إلى أبي بكر يستأذنه في الخروج مع المجاهدين، في جيش أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، لكن عمر رضي الله عنه اعترض على ذلك بسبب حاجة أهل المدينة إلى معاذ وعلمه، وخروجه يبعده عنهم، ويحرمهم من الإفادة من علمه وفقهه، أما معاذ فأصر على الخروج وكلَّم أبا بكر مرة أخرى في ذلك، فلما رأى أبو بكر حرصه على الخروج إلى الشام أذن له وقال لمن حوله: هذا رجل يريد الشهادة في سبيل الله، فلا أمنعه من الخروج، فخرج معاذ مع أبي عبيدة بن الجراح إلى الشام، وكان له خير عضد ونعم المعين .
ولما فتح المسلمون بلاد الشام واستقروا فيها، قصد معاذ مدينة حمص واستوطنها، وقام ينشر فيها الإسلام ويدعو أهلها إليه، ويعرفهم فضائله، ويرشدهم إلى الخير والمعروف، ويعظهم ويفتيهم ويعلمهم أمور الحلال والحرام.
وكان يعقد الحلقات العلمية والإرشادية في المسجد الجامع في حمص، فيستمع إليه الناس ويأخذون عنه صغاراً وكباراً، وكان يحدثهم بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروي عنه...
قال أبو مسلم الخولاني: دخلت مسجد حمص، فإذا فيه نحو ثلاثين كهلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم شاب أكحل، برَّاق الثنايا، فكانوا إذا اختلفوا في شيء، أو شكَّوا فيه، رجعوا إلى ذلك الشاب فسألوه، فكان إذا تكلم كأنما يخرج من فمه نور كاللؤلؤ، فقلت لمن حولي: من هذا الشاب ؟ فقالوا: معاذ بن جبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهكذا نرى أن معاذاً لم يدع تعليم الناس وإفادتهم بالعلم والمعرفة حتى أثناء جهاده وتضحياته في سبيل الله، بل كان يواصل خدمته لهذا الدين في السراء والضراء، ولم يمنعه بعده من المدينة المنورة وقدومه إلى الشام، من أن يواصل مهمته التي عاهد الله تعالى عليها، وهي الدعوة إلى الهن والجهاد في سبيله في كافة الظروف والمناسبات، وعموم الزمان والمكان.
وفاته
ظل معاذ في بلاد الشام يعلم الناس ويفتيهم، ويشاركهم حياتهم بالتوجيه والإرشاد والتربية والتعليم، حتى داهم المسلمين في تلك الديار مرض معدٍ عُرف بطاعون " عمواس "، نسبة إلى البلد التي استفحل فيها وانتشر، وذلك في خلافة عمر بن الخطاب رشي الله عنه، وكان معاذ ممن أصيب بذلك المرض.
وقد روي عنه: أنه لما ألمَّ به المرض بكى، فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيك كذا وكذا وأثنى عليك! فقال: والله ما أبكي جزعاً من موت يحلُّ بي، ولكنْ لا أدري من أيِّ الفريقين أنا: من أهل الجنة، أو من أهل النار.
ثم إنه لما اشتد مرضه وأحسَّ بدنو أجله صار يكرر قائلاً: مرحباً بالموت، مرحباً بزائر جاء على فاقة وفقر، لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لغرس الأشجار، ولا لسقي الأراضي من الأنهار، ولكن لمكابدة الليل الطويل، وظمأ الهواجر في الحر الشديد، ومزاحمة العلماء بالركب في مجالس الذكر، ثم توفي رضي الله عنه وعمره بضع وثلاثون سنة، قضاها في التعلُّم والتعليم، والقضاء والإفتاء، والدفاع عن الإسلام، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وسوف يُبعث يوم القيامة _ إن شاء الله _ وقد تحقق فيه وعد النبي صلى الله عليه وسلم له وقوله فيه: إنه يأتي يوم القيامة يتقدم العلماء برَتْوة، أيْ : خطوة.
أضف تعليقك