مصر ليست بعيدة عن الحرب الأهلية، ولا أي مجتمع آخر، فالحرب الأهلية مثل الموت: "احتمال دائم"، قد تكون له مؤشرات، وقد لا تكون، صحيح أن هناك مؤشرات طبيعية للموت كالمرض والشيخوخة، والخروج عن القوانين بتهور، لكن هذا لايمنع الأصحاء والملتزمين أيضا من الموت!
من هذا المدخل الطبيعي للحياة أرى أن مصر تعيش موتها الخاص بطريقتها منذ فجر التاريخ، فهو موت قرين للحياة، كما أن الحرب الأهلية في هذا البلد القديم العجيب ظلت قرينة للسلم الاجتماعي في كل المراحل والأزمنة، ونظرة سريعة على سطور التاريخ تكشف لنا أن المجتمع المصري ظل قرونا طويلة يستهلك العنف والتمرد بشكل يومي.
حتى أن الاستقرار كان في بعض الأحيان مرهونا بدرجة أقسى من العنف تمارسها سلطة مركزية عامة تعمل في الوقت نفسه كآلة كبح للعنف الخاص، الموزع على القبائل والعربان، ومطاريد الدولة المركزية، وأمراء الأقاليم من السلطة نفسها في بعض الفترات.
(2)
في إطار الفهم الواسع لمفهوم "العنف الأهلي"، لا يمكن إهمال تقليد الثأر الذي ظل منتشرا لقرون طويلة في صعيد مصر وريفها الشمالي، وفي ذلك التقليد الدموي المتجذر اختلطت الدوافع الدينية مع الدوافع الغريزية البدائية وسلطة الوجاهة الاجتماعية للعائلات والقبائل، حتى وصلت في بعض الأحيان إلى تكوين مناطق نفوذ إقليمية تعارضت مع سلطة الدولة المركزية نفسها.
كما في حالة الحرب المباشرة بين سلاطين اللماليك وقبائل العربان، التي ذاع منها في نهايات العصر العثماني تمرد الهمامية في صعيد مصر على دولة علي بك الكبير في القرن الثامن عشر، والدور السياسي الذي انخرط فيه عرب الهنادي في الصحراء الغربية ومحيط الاسكندرية.
لكن مثل هذه الحروب والمناوشات ظلت في تعريفها المعاصر مجرد مظاهر لعدم قدرة الدولة المركزية على احتواء الأطراف والتخوم، وعدم اهتمامها بدمح "الاختلافات" في مكون ثقافي عام يضمن احترام التقاليد النوعية للقبائل والتجمعات البشرية المتمايزة بكل ما لديها من عادات وثقافات خاصة.
فقد اعتمدت الدولة الحديثة في مصر منذ محمد علي وحتى الآن على فرض سيطرتها بالقوة، وليس عبر نموذج ثقافي وقانوني يمثل الوجه الناعم للدولة.
(3)
المؤسف الذي تحول إلى ضرورة، أن هذا النوع من السيطرة بالقوة تحول مع الوقت إلى أسلوب مانع للحرب الأهلية، بدلا من أن يكون دافعا لإشعالها، لأن الفئات الاجتماعية المسالمة تحولت مع الوقت ومع تزايد الخوف من بطش السلطة، إلى جماعات مرتبطة معيشيا وتعليميا ووظيفيا بالسلطة.
حتى أن الظلم الذي تمارسه السلطة صار مألوفا في النسيج الاجتماعي المصري الذي توسع في استخدام الحيلة، والمراوغة، والنكتة الساخرة، للتخفيف من تأثير هذا البطش، وتحويله إلى نموذج للحياة، ويمكن القياس على طريقة معيشة الناس أثناء الحروب الطويلة لكي نقترب من فهم حالة التوافق التي صنعها الفلاحون والحرفيون المصريون البسطاء لتقبل عنف السلطة كأسلوب للحكم.
وإذا تذكرنا رواية ألبير قصيري "العنف والسخرية" يمكننا أن نقول ببساطة إن المصريين البسطاء خاصة الذين يعيشون في الدلتا تحت طائلة السلطة المركزية، بعيدا عن نفوذ القبائل القديمة والتجمعات البدوية المغلقة، اختاروا السخرية لا العنف كأسلوب لإبداء موقفهم من السلطة.
حتى أولئك الذين يرتبطون عقائديا أو أثنيا بجماعات دينية أو عرقية (مثل الأقباط وأهل النوبة) طغى الطابع الثقافي لبناء الدولة المركزية، على الطابع العقائدي والأثني، فأصبح القبطي القاهري أو الريفي، يختلف في تكوينه الثقافي ونظرته للدولة ومواطنيها عن القبطي في أعماق الصعيد الذي يعيش تجربة حياتية وسلطوية مختلفة، وكذلك النوبي، وكذلك ثنائية (سنة/شيعة) و(أبيض/أسود).
وكثيرا ما كانت هذه الثنائيات تلتقي في الأزمات، وتعمل بالفهم العام بدلا من ثقافتها الخاصة.
ومن هنا تحديدا يمكننا أن نفهم الجوهر الثقافي لشعارات ساعدت على بلورة فكرة "المواطنة المصرية" مثل "يحيا الهلال مع الصليب".
بل يذكر التاريخ القريب أن الأب سرجيوس قال من الجامع الأزهر أثناء ثورة 1919: "إذا كان الإنجليز يتذرعون بالحجج الكاذبة لتبرير استمرارهم في احتلال مصر تحت دعوى حماية الأقباط، أقول لهم: ليمت الأقباط، إذا كان هذا هو الثمن ليحيا المصريون جميعا أحرارا".
(4)
التاريخ إذن يتضمن الكثير من "الوقائع" التي تشير إلى تعاطي العنف بين جماعات وقبائل متناحرة داخل المجتمع، وكذلك بين جماعات وقبائل من ناحية وبين مؤسسات الحكم التي تسمت طويلا بـ"الدولة".
وفي هذه الحالة اتخذ العنف مظهر الصراع على الحكم، وهو الصراع الذي انتقل لعمق المجتمع حتى وصل إلى القرى والحواري الشعبية (نموذج مظالم العُمَد والفتوات) لكن "العنف السياسي" لم يتحول إلى لغة شعبية بين الأهالي أنفسهم، ولم تصل في التاريخ المصري القريب ولا البعيد إلى نموذج تقليدي للحروب الأهلية، كما يتم تعريفها في الكتب.
وقد حدث هذا في رأيي لأسباب معقدة، معظمها لا يرجع إلى عبقرية المكان التي تحدث عنها الدكتور جمال حمدان، ولا إلى ميزات فطرية خاصة وضعها الله في نفسية أو عقلية المواطن المصري، ولكن ربما نشأت هذه الميزة نتيجة مخاطر الغزو الخارجي الطويل، ما استلزم حالة من التكاتف في الداخل المصري لمواجهة سلطة الغرباء، ودفع الأقليات للإحساس بالحاجة إلى التعاون مع بقية خيوط النسيج الاجتماعي، حيث نشأت رغبة داخلية هذه الأقليات جعلتها تتصرف باعتبارها جزء من مجتمع.
وليست أقلية متمازة تسعى للانفصال والانعزال، وفي المقابل نشأ لدى الأغلبية نزوع متنوع الدوافع لاحتواء الأقليات، وكل هذا تم في أتون الانصهار الاجتماعي العفوي تحت الإحساس بالخطر.
ولم تساعد فيه سلطة الدولة المركزية بأي تصور ثقافي، بل إن سياسات البطش، والنهب، والتهميش و"فرق تسد" التي مارستها السلطات المحلية أو الأجنبية طوال قرون، كانت تغذي هذه الحاجة الاجتماعية للتماسك، والسمو فوق التمايزات العرقية والعقائدية.
(5)
يبدو أن مشاعر الخوف من "الخطر الخارجي" تقلصت لفترة مع انتهاء الاستعمار بشكله التقليدي، والمصالحة الدراماتيكية التي أنهى به السادات مفهوم "الثأر" حتى لدماء الشهداء بعد صلحه مع إسرائيل، وفتح باب "التبعية" للأجنبي بمفهوم جديد يمثل فيه دور "رسول الحضارة" و"راعي السلام" و"نصير الأقليات"، و"ملجأ المضطهدين"، و"حامي حقوق الإنسان".
وتمت مئات الدراسات الأنثربولوجية الميدانية التي اهتمت بالجماعات المغلقة، والأقليات بكل اشكالها، وتم تغذية أفراد من هذه الجماعات بمفاهيم خارجة عن السياق التاريخي والاجتماعي، وزرع بذور الاستقواء بالخارج، والنزوع الانفصالي الذي يبدأ من الحديث عن الحقوق التاريخية، التي تمثلها أعلى نقطة في تاريخ هذه الأقليات.
وبالتالي، تعرض النسيج الاجتماعي المصري لتفسخات مصنوعة، ولم تستطع الدولة الحديثة في العهود الجمهورية مواجهة هذه التحديات، ولم تكن هناك رؤية لتطوير مفهوم "الرعايا" إلى مفهوم "الشعب" كما هو الحال في الأنظمة السياسية الحديثة.
فقد انصرفت هذه الدول عن البعد الثقافي والاجتماعي، وركزت جهودها في القبضة الأمنية، ومحاولات الهيمنة، والقمع، ولكي تبرر نزوعها لإخضاع الأصوات المختلفة بالقهر والعنف، اخترعت الكثير من "الفزاعات" التي تبدأ من "تكدير السلم الاجتماعي، و"تهديد الأمن العام"، إلى توجيه الاتهامات بالتجسس، والسعي لقلب نظام الحكم، وصولا إلى تهمة "الإرهاب".
مع الاهتمام باحتواء رؤوس هذه الجماعات بشكل بروتوكولي، وعبر محاصصة غير معلنة في السلطة، بحيث أمسكت الدولة بقادة هذه التجمعات في تشكيل عنقودي، يتيح لها التدخل لإطفاء الأزمات حال اشتعالها، وكأنها تريد أن تحافظ على هذه الوضع المتشظي للشعب، لأنه تحول من "عيب دولة" و"آفة مجتمع"، إلى طريقة مضمونة للبقاء في الحكم.
(6)
تقديري أن الحرب الأهلية في مصر، ممكنة إذا نظرنا إلى طبوغرافيا الانقسام الرأسي المخيف، وتصاعد مؤشرات الغضب والكراهية وعدم الانتماء، وارتفاع حدة الفئوية حتى بين الطبقات العليا والنقابات المهنية، وزيادة درجة الصراع بين الأجهزة الرسمية نفسها، وتدني احترام القانون لدى المواطنين ولدى مستويات السلطة أيضا.
لكن "الحروب الأهلية" مثل الثورات، لا تقوم بمعادلات رياضية، ولا بحساب العوامل المتوفرة، تبقى لحظة الاشتعال الغامضة، وهي لحظة خاطفة، وقد تستند إلى أسباب تافهة، لكنها تكوين كافية لفتح أبواب الجحيم.
ولذلك، فإن العقل يقتضي أن تعمل الدولة على تخفيف ونزع الأسباب المتوفرة، حتى إذا حدث الاشتعال لا يجد غابة مشبعة بالنفط تتحول بها مصر إلى جحيم حقيقي وليس على سبيل البلاغة أو الرمز أو توظيف الفوبيا لتوطيد الحكم.
أضف تعليقك