الروشتة التي يسير عليها الاقتصاد المصري ليست للبناء والتنمية وإنما للتخريب والتصفية، ولا يمكن اعتبار إعلان الحكومة طرح 23 شركة وبنك في البورصة إلا خطوة مهمة في مشروع تفكيك الدولة المصرية وتسليمها للشركات متعددة الجنسيات الأمريكية والأوربية.
كانوا في السابق يتحايلون ويزعمون أنهم يبيعون الشركات الخاسرة التي تشكل عبئا على ميزانية الدولة، لكن يبدو أن الشكل لم يعد يهمهم في ظل تغييب الإرادة الشعبية وجاء البيع هذه المرة للشركات الناجحة التي تحقق أرباحا بالمليارات.
الملاحظة الأهم على الأسماء الواردة في قائمة الشركات التي يتم نقل ملكيتها من الدولة للشركات الأجنبية تضم مجموعة منتقاة من الكيانات الاقتصادية التي لها أهمية استراتيجية ومرتبطة بالأمن القومي، وليست مجرد كيانات عادية.
تسليم الموانيء المصرية للأجانب
العقل الذي خطط لعملية البيع هذه المرة ركز على نوعية محددة من الشركات المرتبطة بأهداف خارجية، وفي مقدمتها تسليم الموانيء المصرية للأجانب من خلال بيع شركات الإسكندرية لتداول الحاويات، وبورسعيد لتداول الحاويات، ودمياط لتداول الحاويات، أي إبعاد الدولة المصرية عن الموانيء الثلاث الإسكندرية وبورسعيد ودمياط وتسليمها للأجانب الذين استعدوا قبل الإعلان عن الطرح.
موضوع الموانيء في أي دولة مرتبط بالأمن القومي، ولا توجد حكومة تفرط في موانئها تحت أي ظرف، لارتباطها بعصب الحياة وأهميتها السياسية والاستراتيجية قبل الأهمية الاقتصادية. وكأن مصر لم تكتف بتسليم ميناء شرق بورسعيد لشركة ميرسك التابعة للتاج البريطاني التي تسيطر على الملاحة وحركة النقل البحري في قناة السويس.
بيع العقل الهندسي لقطاع البترول
تضم القائمة 5 شركات في قطاع البترول بعد عقود من تمصير هذا القطاع الهام، وأهم الشركات المعروضة للبيع شركة إنبي وهي ليست كأي شركة، فهي العقل الهندسي لقطاع البترول، وببيعها يتم توجيه ضربة قاصمة لهذا القطاع وتفكيكه، فالشركة بمثابة الرأس لجسد القطاع، وقطع الرأس يترتب عليه تفكيك باقي الشركات وتسليمها لشركات البترول الدولية لنهب ما انتزعناه منهم في نصف قرن.
المعروف أن شركات البترول الدولية تستولي على ثلثي البترول المستخرج في مصر وهي التي تبيع لنا بترولنا، وبدلا من تعظيم حصتنا والاعتماد على أنفسنا في عمليات البحث والتنقيب والاستخراج والتصنيع ها نحن ننقلب على مصالحنا ونسلمهم ما تم تمصيره.
شركات الأسمدة
يأتي طرح أبو قير للأسمدة والوادي للصناعات الفوسفاتية ليوجه ضربة لقطاع الزراعة المصرية، فهذه الصناعة أنشئت لتحقيق الاكتفاء الذاتي من مستلزمات الزراعة، خاصة مع توفر الفوسفات بكميات هائلة في البحر الأحمر والصحراء الغربية، وكان الأمل في التوسع في بناء المزيد من المصانع لتصدير الفوسفات بعد تصنيعه بدلا من تصديره خاما، لكن هناك من يريدنا أن نشتري الأسمدة التي هي ملكنا من الأجنبي.
الذين سيشترون مصانع الأسمدة إما سيقومون بتفكيكها كما حدث مع الشركات السابقة التي بيعت فنضطر لشراء احتياجاتنا من الخارج بالدولار، أو أنهم سيبقون عليها لنشتري منهم ويحولون هم أرباحهم إلى الخارج بالدولار، وفي كلتا الحالتين نحن الخاسرون.
مجمع الألومنيوم
من المفاجآت في القائمة المعلنة بيع مجمع الألمنيوم في نجع حمادي، وهذه القلعة الصناعية ليست مجرد شركة وإنما مجتمع متكامل، به مصانع ومساكن ومستشفيات ومدارس، وقرار بيعه ليس مجرد نقل ملكية وإنما تدمير لحياة قائمة أوسع من المدينة التي يوجد بها.
تعتمد على مجمع الألومنيوم صناعات أخرى في مصر تفوق في حجمها ومعاملاتها قيمة ما ينتجه المصنع، ولا يصح تقييمه بعائدات التصدير للخارج، ولا يمكن تجاهل دور هذه القلعة الصناعية في تنمية جنوب الصعيد ودورها المجتمعي والتنموي.
التخلص من البنوك الوطنية
وفي قطاع الخدمات المالية قررت الحكومة بيع بنك القاهرة وبنك التعمير والاسكان وباقي حصتها في بنك الإسكندرية، وأيضا شركة مصر للتأمين وهذا الاختيار يعيدنا إلى ما قبل طلعت حرب.
إن خروج الحكومة من القطاع المصرفي يتم لحساب البنوك الأجنبية التي ستسيطر على مدخرات المصريين وتوظيفها لصالح الأجندات الخارجية ومنها تمويل عملية نقل ملكية شركات الحكومة التي يتم تصفيتها.
لكن بيع مصر للتأمين وبنك القاهرة له هدف آخر مرتبط بالرغبة الصهيونية للاستيلاء على منطقة وسط العاصمة المسماة بالقاهرة الخديوية في إطار مخططات إسرائيل الكبرى، إذ تمتلك مصر للتأمين تقريبا نصف هذه العقارات، ويمتلك بنك القاهرة نسبة ليست قليلة.
لماذا تبيع الدولة الشركات؟
حتى اليوم لم تقدم الحكومة المبرر الحقيقي لبيع الشركات، ولا تعترف بأنها تنفذ الأجندة الاستعمارية الموضوعة لها من قبل صندوق النقد والبنك الدوليين، ويتم ترويج مبررات كاذبة لخداع الشعب، ففي البداية كانوا يتحججون بالخسائر نتيجة سوء الادارة، وكان الحل المنطقي تغيير هذه الإدارات الفاسدة وليس ببيع الشركات وتشريد العمال!
والآن يبررون الجريمة بتنشيط البورصة التي يسيطر عليها الأجانب، الذين اشتروا معظم الأسهم بعد تعويم الجنيه، وكأننا نخرب بيوتنا بأيدينا لإثراء الأجانب!
البعض مشغول بتقييم الشركات المباعة والأسعار المتدنية التي تباع بها، ولكن السؤال الأهم أين تذهب حصيلة البيع منذ بدأت الخصخصة؟ الحقيقة لا توجد أي استفادة عائدة على الشعب سواء تم البيع بالسعر الحقيقي أو بثمن بخس، فالعائدات لا تذهب إلى بناء مصانع جديدة ولا ينفق منها على أي مشروعات تنموية، وإنما تذهب إلى خزائن الحكم غير الرشيد الذي يبدد المليارات في مشروعات وهمية أو غير إنتاجية.
الحقيقة أن مصر لم تشهد منذ 3 عقود بناء أي مصانع جديدة تستحق الذكر، والذي تم هو تصفية المصانع الموجودة، وتم تفكيك القلاع الصناعية وبيعها لمجموعات من اللصوص الدوليين ووكلائهم المحليين الذين اشتروا المصانع وفككوها وباعوها.
دور الشركات: نموذج فالكون
إجبار الحكومة على بيع ممتلكاتها مرتبط بتغيير نمط السلطة التي تحكم مصر؛ من خلال الشركات متعددة الجنسيات التي بدأت تحل بدلا من الحكم الوطني، وانتقلت من مرحلة الاختراق إلى السيطرة والتحكم، والنموذج الأوضح على هذه السيطرة الجديدة ما تقوم به شركة فالكون.
تعتبر شركة فالكون نموذج مصغر للدور المرسوم للاستثمار الأجنبي، فهذه الشركة أسسها البنك التجاري الدولي الذي يعد أكبر بنك متعدد الجنسيات في المنطقة؛ فالكيانات المسيطرة على البنك والتي تمتلك الأسهم الرئيسية شركات كندية وبريطانية وأمريكية أي دول حلف الأطلسي ومعهم الإمارات.
ويقول البنك التجاري الدولي على موقعه الإلكتروني إن فالكون شركة تابعة للبنك، وفي تعريفه للشركة التابعة أنه يمتلك نسبة في الأسهم تجعله يسيطر على اتخاذ القرار بها، ويتباهى البنك بأن الأمم المتحدة تعترف بأن فالكون هي الشركة الوحيدة المعترف بها دوليا للعمل في هذا المجال في مصر.
وتحولت فالكون من شركة أمن خاص تساندها الأمم المتحدة إلى دولة داخل الدولة، تسيطر على عصب الحكم المصري، وتدير الأمن في الجامعات والمطارات بدلا من وزارة الداخلية، وتوسعت إلى السيطرة على الإعلام بشراء الفضائيات، وفي خطوة غير منطقية أعلنوا مؤخرا أنها ستتولى قراءة عدادات الكهرباء في البيوت وهي أخطر مهمة متعلقة بأمن المصريين وجمع المعلومات عنهم!
أي مصري محب لوطنه لا يقبل هذا التفريط في قلاعنا الصناعية واحدة بعد الأخرى؛ وتسليم اقتصاد الدولة ومؤسساتها للشركات الدولية ورأس المال الأجنبي؛ فالإصلاح الاقتصادي لن يأتي من سياسات البيع والتصفية، ولن تجني مصر من تنفيذ برامج المؤسسات الدولية غير تشريد العمال وتفاقم البطالة وانهيار الدولة وفتح الباب لاحتلال من نوع جديد.
إن الخصخصة اسم خادع لأسوأ لعبة تمارسها الدوائر الاستعمارية للعودة إلى امتلاك كل شيء في بلادنا وتجريد الشعوب من ممتلكاتها، وهذا السيد الجديد يأتي باسم الاستثمار ليشتري كل شيء دون أن يدفع دولارا، من خلال القروض التي يحصلون عليها من أموالنا المدخرة في بنوكنا التي تباع الآن بأبخس الأسعار.
أضف تعليقك