بقلم: إحسان الفقيه
الهُوينا كان يمشي
كان يمشي فوق رِمشي
اقتلوه بهدوءٍ
وأنا أُعطيه نعشي
لما فُجِعت اليمامة بنت كليب بن ربيعة بموت حبيبها جبير بن الحارث على يد الزير سالم، أنشدت هذه الأبيات في رثاء معشوقها الذي لقي حتفه بطريقة بشعة، فوصفت حنانه ولين جانبه معها، وكأنه من رقّته لن يضرها إنْ خطا على رمشها، وهي في الوقت ذاته تتمنى لو أنهم قتلوه بطريقة أكثر هدوءًا وأكثر رحمة، يستحقها بدلا من الطريقة الوحشية التي قُتل بها، مع أن المحصلة النهائية واحدة: الموت والفراق.
ترامب الذي عشق الشعب السوري حتى النخاع، وآلمته المشاهد المتكررة التي يتساقط خلالها الأبرياء العُزّل من ذلك الشعب البائس، أراد كذلك للسوريين قتلا رحيما بعيدا عن القتل بالأسلحة الكيماوية التي كان يُمطر بها الأسد شعبه، ويا لَقلبه الرحيم.
في ذات ليلة كان الرجل يزاول هوايته في وقت الفراغ بالتغريد على تويتر، فجعل يتوعد بشار الأسد الذي طال ليلُ ظلمِه، فقد آن الأوان لأن يرتدي ترامب لأَمَة الحرب، ويسلّ سيفه كبطل إغريقي في الإلياذة أو الأوديسا، ويركض على طريقة «براد بيت» في فيلم «troy»، ويلقن الشرير درسا، ثم….
تصفيقٌ حاد……
لم يكد المصارع الأمريكي يعلن تحديه للروس على تويتر بأن صواريخه الذكية الرائعة في طريقها إلى سوريا، حتى انقلب العالم بأسره رأسا على عقب، وبدا للكثيرين أن العالم على شفا حرب كونية ثالثة، تكون أرض الشام مسرح عملياتها، وربما رأى البعض أن الأحداث تقترب بالعالم نحو نبوءة هرمجدون التوراتية، أو الملحمة كما هو اسمها عند المسلمين.
جمْعٌ من المتفائلين قالوا إنها نهاية نظام بشار الأسد، خاصة أن الولايات المتحدة ستوجه الضربة بمساندة بريطانية فرنسية وتأييد خليجي، وأمعنوا في التفاؤل حتى قالوا إن العمليات ربما تطال القوات الإيرانية والميلشيات الشيعية الموالية لطهران، والداعمة لنظام بشار.
تحركت البوارج والطائرات..
انطلقت الصواريخ (الذكية الرائعة)..
وخلال سويعات منذ انطلاق القصف الأمريكي البريطاني الفرنسي فجر السبت، تم تدمير الأهداف المُحدّدة سلفَاً بِدقّة، وبهذه الضربة أُضعفت قدرة النظام على إنتاج واستخدام الأسلحة الكيماوية..هكذا تقول الأسطورة. وبعد إعلان انتهاء العملية، عاد ترامب إلى هوايته، واحتفالا بالضربة ظل يغرد ويغرد ويغرد.. »نُفّذت الهجمات بشكل مثالي الليلة الماضية، أشكر فرنسا وبريطانيا على حكمتهما وقوتهما العسكرية، لم يكن ليتحقق أفضل مما تحقق، المهمة أُنجزت».
شكرا ترامب…وماذا بعد؟
»فخور جدًا بجيشنا العظيم الذي سيصبح بعد إنفاق مليارات الدولارات، الأفضل في تاريخ البلاد، ولن يكون أي شيء أو أي أحد قريبا منه».
شكرا ترامب…وماذا بعد؟
أُصبنا بخيبة أملٍ كنا نتوقعها، تذكرت حينها قصيدة «لن تأتي» لمحمود درويش وهو يقول: «لم تأتِ، قلت ولن، إذن سأعيد ترتيب المساء بما يليق بخيبتي وغيابها، أطفأت نار شموعها، أشعلت نور الكهرباء، شربت كأس نبيذها وكسرته…
لكننا كالعادة لا نعيد ترتيب أوراقنا بما يليق بخيبتنا بعد كل مهزلة، نعم إنها مهزلة، ربما نُدركها عندما نجيب على التساؤل: وماذا بعد الضربة؟ لا شيء، ترامب عاد إلى قواعده مُحققًا نصرا جديدا يخرس ألسنة معارضيه في الداخل.. وعاد بعدما بعث برسالة إلى الجيران بأن أي عبث باستخدام الأسلحة الكيماوية سيعقبه ردٌّ أمريكي… وعاد بعدما أظهر للجميع أنه يستحق لقب شرطي العالم الذي يحمي ويرعى السلام ومبادئ الإنسانية…
وعاد بعدما كسب – مع بريطانيا وفرنسا – جولة جديدة، باعتبارهم أبرز مكونات المعسكر الغربي، ضد المعسكر الشرقي الذي تُمثله روسيا والصين، وذلك لإضعاف النفوذ الروسي ووقف تمدده. وعاد بعدما عزز الوجود والنفوذ الأمريكي في سوريا قبل أن يتم تقسيم الكعكة.
أما النظام السوري، فخرج بعد هذه الضربة وهو يترنم بالصمود أمام العدوان الثلاثي، ومارس إعلامه الدجل المعهود وهو ينقل للجماهير أنباء تصدي الدفاعات الجوية السورية للعدوان الأمريكي البريطاني الفرنسي، ويُبهج المتابعين بأخبار إسقاط 13 صاروخا بريف دمشق. وخرج أتباع النظام في الشوارع رافعين صور بشار الأسد، مبتهجين بما اعتبروه نصرا مبينا على العدوان الثلاثي أسوة بما جرى في مصر 1956، وليس ببعيد أن يتم اعتبار هذا اليوم عيدا سنويا. لقد خرج بشار بعد هذا الاستعراض بشكل أفضل مما كان عليه قبلها، وآزره إعلام بعض الأنظمة العربية القمعية المعادية للربيع العربي، واستغلوا الضربات لتجميل صورته وإبراز التفاف الشعب حوله ضد الإمبريالية الأمريكية.
لقد كانت القبلات المتبادلة بين المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن نيكي هايلي والمندوب الروسي فاسيلي نيبينزيا عقب الاتهامات المتبادلة بين البلدين، كفيلة بأن نَعِي أبعاد المسرحية الهزلية، وكما توقعتُ وكتبتُ قبل الضربة، أنه سيتم التوافق بين الجانبين على توجيه ضربة محدودة تحفظ لترامب ماء وجهه، من دون أن تؤثر على مسار الصراع في سوريا، وبما يضمن تحقيق الأهداف الروسية الرامية إلى الحفاظ على النظام السوري الحليف، وهذا ما أسفرت عنه الضربات، التي استبعدَتْ أماكن تمركز القوات الروسية والإيرانية كالعادة ولم تُصبها بسوء.
يا أهل سوريا، فلتوجِّهوا رسالة شكر إلى سيد البيت الأبيض، ألا يكفيكم أنه أدّب بشار الأسد حتى لا يقتلكم بالكيماوي؟ إفرحوا وتهللوا، لقد منحكم ترامب فرصة الموت بهدوء، بالصواريخ، والرصاص، والبراميل المتفجرة، المهم ألا تموتوا بالأسلحة الكيماوية، ألا يستحق الشكر؟
لا تتحدثوا عن العراق، فالمصلحة الأمريكية كانت تقتضي الإطاحة بنظام صدام، وأما في سوريا فالأوضاع مختلفة، والتنسيق يجري على قدم وساق مع روسيا وإيران لتبادل المصالح واقتسام الغنائم، وإلا فالولايات المتحدة صامتة طيلة سنوات النزاع ولم تحرك ساكنا، وعندما تدخلت قصفت الرقة ودير الزور وقتلت آلاف المدنيين.
لقد انتهت الجعجعة التي أربكت العالم في الأيام الماضية، وعاد كلٌ من الأطراف بغنيمته، وبقي الشعب السوري وحده ينزف ولا مغيث، ويكتفي بعد هذا الاستعراض بأنه سوف يُذبح بشكل أكثر رحمة.
أضف تعليقك