بقلم: منير شفيق
من يراجع تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عندما أعلن عزمه على الضرب في سورية (على العدوان)، توقع ضربة تختلف عن ضربة الشعيرات رداً على ما عرف في حينه أزمة الكيماوي في خان شيخون في نيسان/إبريل 2017. لأن تلك الضربة كانت رمزية جداً، وقد سبقها تفاهم مع الروس حولها (طبعاً من دون موافقتهم عليها). بمعنى إعلامهم بها وإعطائهم الفرصة الكافية لاتخاذ الإجراءات المخففة من أضرارها قدر الإمكان. وبالفعل جاء العدوان ضمن تلك الحدود، واعتبر ذراً للرماد في العيون، أو مخرجاً للنزول من الشجرة. علماً بأن التهديد الذي سبقه لم يكن بحجم التهديد الذي سبق العدوان الثلاثي الأمريكي- البريطاني- الفرنسي الراهن الذي أطلق في فجر 14/4/2018.
كل التصورات التي رسمت حدود القصف العسكري المتوقع اعتبرته أكبر بكثير من الذي حدث في فجر يوم السبت 24/4/2018. وقد وصل التصور المتوقع من قِبَل البعض إلى حد توقع سحق مواقع الحرس الجمهوري والمطارات والطائرات، ومخازن الأسلحة ومواقع السيطرة، وليمتد مثخناً بمواقع الحرس الثوري وحزب الله، وربما مواقع تحت الحماية الروسية أيضاً.
إن من يقارن أياً من تلك التصورات (السيناريوهات) بما حدث فجر ذلك اليوم الموعود سيجد أنه أمام تكرار بليد لما حدث في الشعيرات، بما في ذلك ما تم من إعلام للروس، ومن خلالهم، إعلام كل من يهمه الأمر لاتخاذ الإجراءات والاحتياطات التي ستجعل من القصف مجرد أضرار مادية في الحجر بعيداً من البشر. وقد اعتبر الناطق العسكري الروسي أن نسبة كبيرة من الصواريخ لم تصل اهدافها بسبب تعرض صواريخ مضادة من الجيش السوري لها، والأهم عدم تعطيل أي من المطارات.
المشكل في هذا الاختلاف الذي حدث بين ما هو متوقع استناداً إلى تغريدات ترامب وحتى استناداً إلى ما حشد من أساطيل محملة بالطائرات كما بالصواريخ من جهة، وبين حجم الضربة العسكرية التي أطلقت وحدودها من جهة أخرى، يكمن في ما حدث من تغيير واسع في الهدف والخطة. بل في المستهدف رقم واحد، وراء إثارة موضوع الكيماوي في دوما.
من يتابع الحملة الشعواء التي أطلقتها أمريكا وأوروبا (في الغرب عموماً) حول استخدام الكيماوي في دوما يجدها قد تركزت على "النظام" ومن ورائه روسيا وإيران. ولكن من يدقق في تلك الحملة لتحديد الأولوية بين الأهداف والمستهدفين سيجدها، هذه المرة، مركزة على روسيا-بوتين خلافاً لما كانت عليه الحملة في أزمة كيماوي خان شيخون. ولهذا عندما أوحت تغريدات ترامب أن الضربة ستكون مختلفة نوعياً عن السابقة كان المقصود تحدي روسيا ومواجهتها.
ومن يتابع مستوى الرد الروسي لا سيما من بوتين ولافروف والناطقين العسكريين يتأكد بأن الروس منذ اللحظة الأولى تلقوا الرسالة باعتبارها موجهة بالدرجة الأولى إليهم في هذه المرة. ولهذا لم يترك الروس مجالاً لكل من ترامب وتيريزا ماي وماكرون بأنهم سيردون الصاع عليهم صاعين. ومن ثم لا بد من الانتقال في الحسابات والتفكير إلى ما هو أبعد من حدود الضربة المتوقعة بل إلى ما هو أبعد من سورية. أي قد تكون مواجهة أخطر من أية مواجهة حدثت في مرحلة الحرب الباردة. لأن الطرفين في تلك الحرب كانا يعرفان جيداً خطواتهما، وإلى أين تصل ومتى ستقف. أما الطرفان في هذه المرحلة العالمية الراهنة من موازين القوى فيواجهان ما هو جديد كلياً عليهما، وليس له من سابق، ولم ترسم له الاستراتيجية والتكتيك المفكر بهما جيداً، ولا سيما من جانب القيادة الأمريكية المرتبكة والمفتقرة إلى استراتيجية متماسكة.
لهذا كثيرون لم يلحظوا الخطر الذي واجه العالم مع انطلاق تغريدات ترامب والتوجه إلى ليّ ذراع بوتين. وبكلمة كانت ثمة حرب بين روسيا وأمريكا على الباب، ولا يعرف أحد مداها إذا ما حدث الاشتباك. ولعل هذا ما أوضحه وزير الدفاع الأمريكي جايمس ماتيس لرئيسه دونالد ترامب حين التقاه مساء 12/4/2018: وفرض إعادة الحسابات.
من هنا تغيرت المعادلة التي حُشدت الأساطيل من أجلها. وأصبحت بارجة واحدة بطائراتها وصواريخها كافية لإطلاق ما عرفته ضربة فجر 14/4/2018 من صواريخ وأهداف. وبهذا جاءت لتكرر ضربة الشعيرات تكراراً بليداً، وإن ضوعف عدد الصواريخ. لأن روسيا تحولت من هدف عسكري مباشر إلى هدف محيّد، قدمت له التطمينات الضرورية بأنه ليس المستهدف وأن الاستهداف لن يكون في مستوى يتطلب منه الرد عليه.
صحيح أن العدوان الثلاثي الذي وجه ضد سورية جاء أشبه ما يكون بالجبل الذي تمخض فوَلّد فأراً. وذلك من ناحية تأثيره في ميزان القوى الداخلي أو من حيث تاثيره في استمرار ما كان قبله. أما من ناحية أهمية العدوان المعنوية بالنسبة إلى أمريكا وبريطانيا وفرنسا فليقولوا في أهميته ما يقولون. لأن من غير الممكن أن يعلنوا بأنهم تراجعوا أمام روسيا أو بأنهم لم يحققوا شيئاً لتغيير المعادلة الداخلية السورية، وإلاّ على ترامب أن يتوقف عن "التغريد"، وعلى تيريزا ماي أن تستقيل، أو على ماكرون أن يتعلم من ميركل، وكيف تجاوبت مع ترامب؟
على أن كل أزمة ما سُمي بكيماوي دوما، ومن بعدها العدوان على سورية، سرعان ما سيصبح من الماضي لتمضي الأحداث تحفر في الاتجاهات التي كانت السبب الذي صنع الأزمة وذهب إلى ما ذهبت إليه. فمن جهة سوف يتعمق الصراع بين روسيا وكل من أمريكا وأوروبا، ومن جهة ستمضي التطورات في سورية على ما مضت فيها حتى الآن، لا سيما من ناحية الجنوب وإدلب واستكمال طريق الغوطة. أما الجديد فهو ارتفاع مستوى المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني بعد عدوان الأخير على مطار "تيفور"، وهذا لم تظهر ملامحه الأولى بعد.
وبالمناسبة بالرغم من تراجع العدوان عن الاقتراب من روسيا، وعلى الرغم من إعلامها به، إلاّ أنها غاضبة من مجرد حدوثه.
على أن ما يجب أن يوضع في حساب قراءة الوضع الدولي وامتداده إلى تركيا وإيران والبلاد العربية، وخصوصاً سورية وفلسطين، إنما هو مآلات الصراع الأمريكي- الروسي حول ما تمتلكه روسيا من تفوّق جديد في مجالات الصواريخ والتكنولوجيا العسكرية. الأمر الذي أخاف أوروبا وراح يعيد التحالف بينها وبين أمريكا كما ظهر في أزمة التسميم الكيماوي للجاسوس سيرغي سكريبال وابنته يوليا وما تبعه من إبعاد ديبلوماسيين روساً، وكما عبرت عنه بريطانيا وفرنسا وتصريحات ميركل من تحالف مع امريكا في مواجهة كيماوي دوما، وحرب العدوان الثلاثي على سورية.
فبعد أن كان الوضع العالمي قبل ذلك الخطاب يتسّم ببروز تباعد في المواقف بين أمريكا وأوروبا، وحتى بين أمريكا وبريطانيا، دخل الوضع العالمي في سمة جديدة يتجه إلى تقارب أمريكي- أوروبي من جديد في الصراع ضد روسيا. وقد وصل إلى حد الوقوف عند شفير الاشتباك العسكري، ثم تداركه في اللحظة الأخيرة.
طبعاً هذا التطور الجديد لوضع دولي اتسّم بالفوضى واللا نظام وتعدد القطبية الدولية والإقليمية ما زال في أولى خطواته. ومن ثم لا بد من أن يؤثر في مجموعة من الصراعات العالمية والإقليمية والمحلية من فلسطين حتى بحر الصين.
أضف تعليقك