وثمرة من ثمار سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم تشهد أنها ثمرة نبي ونبوة، هي الطاعة المبصرة ، وذلك أن العرب شعب لم يترب على طاعة أحد، ولم يترب على نظام ولا انضباط، وليس لديه مفهوم عن الولاء لحكومة ما، أو الخضوع لها، وأما غير العرب فالأمر عندهم مختلف، طاعة عمياء لملوكهم ومرؤوسيهم في كل شيء . إذا أمروا بالشيء كان خيراً، وإذا نهوا عنه نفسه كان شراً ، لا يقال لهم لا، ولا يحاسبون ولا يراقبون.
وحدث ذلك الحدث الضخم ، أن الأمة التي لا تعرف النظام أصبحت منظمة ، والتي لا تعرف الطاعة أصبحت مطيعة ، ولكنها طاعة من نوع جديد فريد ، طاعة بالحق لا بالباطل ، بالعدل لا بالظلم ، لمن يستحق الطاعة لا لمن لا يستحقها ، فكان ذلك فتحاً جديداً في تاريخ الوعي عند الشعوب ، لدرجة أن العربي الذي كان يتعصب لقريبه وينصره وإن كان على الباطل ولا يطيع فيه أحداً أبداً ، صار على ابن عمه إذا كان على الباطل ، ويطيع فيه أبعد الناس نسباً عنه في الحق .
والذي كان أبعد الناس عن الانضباط ، صار أكثر الناس انضباطاً ، ومن قرأ تاريخ العرب في الجاهلية ، عرف الفارق الكبير بين ذلك الواقع وواقعهم بعد . وهذه أمثلة من واقعهم بعد تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياهم .
... أ – روى ابن جرير بسنده عن ابن زيد قال : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عبد الله بن أبي قال : ألا ترى ما يقول أبوك ؟
قال : ما يقول بأبي أنت وأمي ؟ يقول : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل .
فقال : فقد صدق والله يا رسول الله أنت والله الأعز وهو الأذل .
أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبر مني، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لأتيتهما به.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ، فلما قدموا المدينة قام عبد الله بن عبد الله بن أبي على بابها بالسيف لأبيه ثم قال : أنت القائل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله لا يؤيك ظله ولا تأويه أبداً إلا بإذن من الله ورسوله فقال : ياللخزرج ، ابني يمنعني بيتي ! فقال : والله لا يأويه أبداً إلا بإذن منه .
فاجتمع إليه رجال فكلمه فقال : والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه فقال : اذهبوا إليه فقولوا له : خله وسكنه ، فأتوه فقال : أما إذا جاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فنعم .
ب – ومن كلام لسعد بن معاذ يوم بدر يخاطب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" إني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فأظعن حيث شئت ، وصل حبل من شئت ، واقطع حبل من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، وأعطنا ما شئت ، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت ، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك ، فوالله فئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك ، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك "(1) .
جـ - ويروي كعب بن مالك قصته مع الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فيقول فيها :
(1) سيرة ابن هشام .
" ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة من بين مَن تخلف عنه قال : فاجتنبنا الناس أو قال : تغيروا لنا حتى تنكرت لي نفس الأرض فما هي الأرض التي أعرف إلى أن قال : حتى إذا طال علي من جفوة المسلمين ، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت فعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار " .
ويقول : " بينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : " ما يدلني على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني ، فدفع إلي كتاباً من ملك غسان ، وكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه : أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جافاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك .
فقلت حين قرأتها : وهذه أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور فسجرتها "(1) . حتى نزلت توبته وكان ما كان .
د – وللعرب ولع بالخمر تتحدث عن معاقرتها والاجتماع على شربها الشعراء ، وشغلت جانباً كبيراً من شعرهم وتاريخهم وأدبهم ، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم ، وكثر فيها التدقيق والتفصيل كثرة تدعو إلى العجب ، وكانت حوانيت الخمارين مفتوحة دائماً يرفرف عليها علم يسمى غاية .
وشاعت تجارتها عندهم حتى أصبحت كلمة التجارة مرادفة لكلمة بيع الخمر ، ومع هذا كله فما يكاد تحريم الخمر ينزل حتى انتهت أمر الخمر من أرض العرب . روى أبو بريدة عن أبيه قال :
(1) أخرجه البخاري .
بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلة ، إذ قمت حتى آتي رسول الله فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر {يَـ?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} .. إلى قوله : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} .. قال : وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا في باطيتهم فقالوا : انتهينا ربنا انتهينا .
هـ - ولقد تأصل فقه الطاعة في المعروف عند العرب وغيرهم من المسلمين حتى وصل إلى عجائز الناس .
" أخرج مالك عن ابن أبي مليكة قال : إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مر بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال لها : يا أمة الله لاتؤذي الناس لو جلست في بيتك .
فجلست .
فمر بها رجل بعد ذلك فقال : إن الذي كان نهاك قد مات فارجعي .
قالت : ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً " .
و – وتأصل فقه الطاعة بالمعروف في أنفسهم ظاهراً وباطناً في الغيبة والحضور في المنشط والمكره :
لما عزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد غضب ناس .
وممن غضب علقمة بن علاثة وهو من أمراء العرب فانظر ماذا كان جوابه في هذه الحادثة اللطيفة :
" لقي عمر – رضي الله عنه – علقمة بن علاثة جوف الليلة وكان عمر يشبه بخالد بن الوليد – رضي الله عنه - . فقال علقمة : يا خالد عزلك هذا الرجل ، لقد أبى إلا شحّاً ، لقد جئت إليه وابن عم لي نسأله شيئاً ، فأما إذا فعل فلن أسأله شيئاً .
فقال له عمر : هيه فما عندك ! فقال : هم قوم لهم علينا حق فنؤدي لهم حقهم وأجرنا على الله .
فلما أصبحوا قال عمر لخالد : ماذا قال لك علقمة منذ الليلة ؟ قال : والله ما قال لي شيئاً قال : وتحلف أيضاً فجعل علقمة يقول لخالد : مه يا خالد فقال عمر كلاهما قد صدق وأجاز علقمة وقضى له حاجته "(1) .
ز – ولكن طاعتهم طاعة ضمن حدود المعروف أما أن تكون على غير ذلك فلا :
أخرج الشيخان عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال : استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأنصار على سرية بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا قال : فأغضبوه في شيء فقال : اجمعوا لي حطباً فجمعوا فقال : أوقِدوا ناراً فأوقدوا ثم قال : ألم يأمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسمعوا لي وتطيعوا ؟ قالوا : بلى قال : فادخلوها .
قال فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النار . قال : فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكروا ذلك له فقال : لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف " .
وكان الصحابة يتذاكرون هذا الأصل ويتواصون به حتى لا ينحرفوا بانحراف سلطان أو حكم :
لما ولى زياد الحكم بن عمر الغفاري خراسان أرسل عمران بن الحصين رضي الله عنهما يطلبه حتى إذا لقيه قال : أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا طاعة لأحد في معصية الله تبارك وتعالى ؟ قال : نعم . فقال عمران : الحمد لله أو الله أكبر .
(1) أخرج يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح إلى الحسن .
جـ - وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد على سرية ومعه في السرية عمار بن ياسر – رضي الله عنهما – قال : فخرجوا حتى أتوا قريباً من القوم الذين يريدون أن يصبحوهم نزلوا في بعض الليل قال :
وجاء القوم النذير فهربوا حيث بلغوا ، فأقام رجل كان قد أسلم هو وأهل بيته فأمر أهله فتحمّلوا وقال : قفوا حتى آتيكم ، ثم جاء حتى دخل على عمار – رضي الله عنه – قال :
يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وأهل بيتي فهل ذلك نافعي إن انا أقسمت . فإن قومي قد هربوا حيث سمعوا بكم ، قال فقال له عمار : فأقم فأنت آمن .
فانصرف الرجل هو وأهله ، قال : فصبح خالد القوم فوجدهم قد ذهبوا فأخذ الرجل وأهله فقال له عمار : إنه لا سبيل لك على الرجل قد أسلم .
قال : ما أنت وذاك ؟ أتجير عليّ وأنا الأمير ؟ ؟
قال : نعم أجير عليك وأنت الأمير . إن الرجل قد آمن ولو شاء لذهب كما ذهب أصحابه ، فأمرته بالمقام لإسلامه . فتنازعا في ذلك حتى تشاتما فلما قدما المدينة اجتمعا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر عمار الرجل وما صنع فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمان عمار ونهى يومئذ أن يجير أحد على الأمير فتشاتما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال خالد :
يا رسول الله ! أيشتمني هذا العبد عندك أما والله لولاك ما شتمني فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - :
كف يا خالد عن عمار فإنه من يبغض عماراً يبغضه الله عز وجل من يلعن عماراً يلعنه الله عز وجل .
ثم قام عمار واتبعه خالد بن الوليد حتى أخذ بثوبه فلم يزل يترضاه حتى رضي عنه ونزلت هذه الآية :
{ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } أمراء السرايا – {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . فيكون الله ورسوله هو الذي يحكم فيه .
{ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ( النساء : 59 ) . أي ( خير عاقبة ) .
والمسألة في هذا الموضوع كما يلي :
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم الإنسان أن الله وحده هو الذي يستحق الطاعة وحتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما يطاع لله وغير رسول الله إنما يطاع بطاعة الله {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} أي من المسلمين ، أما غير المسلم فلا طاعة له ، والمسلم طاعته في حدود كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لذلك ختمت الآية : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وعلى هذا فمن أمر بمعصية الله فلا طاعة له ، وبهذا تماسكت شخصية الإنسان تماسكاً لا مثيل له ، فصار المسلم يقول لا ، إذا كان ينبغي أن تقال مهما كان وراءها ، لا يبالي إن كان الناس كلهم عليه في الباطل ، لا يساير الناس ولا يداريهم على حساب الحق .
أما في الحق فهو أكثر الناس طاعة وانضباطاً إذ في هذه الحالة جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله طاعة الأمير الحق فرضاً ، وفي الباطل معصيته فريضة .
قال أبو جعفر المنصور الخليفة لطاووس : ناولني الدواة .
فرفض .
قال : أخشى أن تكتب فيها معصية فأكون شريكك فيها .
فما أبلغ هذا في ثمار النبوة وما أدله عليها .
أضف تعليقك