(اللَّهمّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سُخْطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ).
من ذا الذي لم يقرأ هذه المناجاة من سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ثم لا يبكي قلبه وعيناه؟ كلمات بالغة الحزن، مفعمة بالرضا بقضاء الله والتوكل عليه واللياذ بجنابه، جرت على شفتيه لدى خروجه من الطائف وقد كذّبه القوم وأغروا به السفهاء والصبيان فأدموا قدميه بالحجارة، ومن قبلها عاش في كنف عام الحزن الذي توفيت فيه زوجته ورفيقة دربه خديجة، وعمه أبو طالب الذي آواه وحماه.
لكن ربه ما ودعه وما قلاه، بل وهبه ما يكون سلوانا لقلبه، وجبرانا لمصابه، يمسح عنه الأحزان، ويثبت به الجنان، فكانت معجزة الإسراء والمعراج، حيث وصل سيد البشر إلى مكان لم يصل إليه بشر، ليعلم أن الكون أوسع من بطحاء مكة، وأنه إن كذبه أهل الأرض فحسبه أهل السماء، فيها ركنٌ شديدٌ يأوي إليه الضعيف.
تفاصيل الرحلة يعلمها القاصي والداني، شب عليها الصغير وهرمَ عليها الكبير، ومنذ نعومة الأظفار نتدارسها في المدارس والمساجد، لكننا غالبا ما نفتقد الاعتبار والاتعاظ، لذا آثرتُ أن ألفت إلى بعض الوقفات، علها تكون نفعا للكاتب والقارئ وعلى الله التكلان.
الله لطيف بعباده:
ألا فليعلم كل مكروب ومهموم ومحزون، أن الله تعالى الذي لطف بعبده ونبيه محمد بتلك المعجزة، أنه لطيف بعباده، لا يدعهم لأحزانهم وهمومهم، وهو الذي ساق إلينا الأمل بقوله (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا).
وفي لغة العرب أنه إذا تكرر المعرف بالألف واللام فيعني أن المكرر شيء واحد، وإن تكرر النكرة دل على أنه مُتباين، فجاءت الآية وهي تحمل عسرا واحدًا ويُسرين، وهذا ما أدرك الفاروق عمر جليلَ معناه، فعندما بلغه أن أبا عبيدة بن الجراح قد حُصر بالشام ونال منه العدو، كتب إليه يقول: أما بعد فإنه ما نزل بعبد مؤمن شدة، إلا جعل الله بعدها فرجا، وإنه لا يغلب عسر يسرين.
يا صاحب الهم إن الهم منفرجٌ......أبشر بخيرٍ فإن الفارج اللهُ
اليأس يقطع أحيانا بصاحبهِ.......لا تيأسن فإن الكافي اللهُ
الله يحدث بعد العسر ميسرةً.....لا تجزعن فإن الصانع اللهُ
إذا بُليت فثق بالله وارض به.....إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ
والله مالك غير الله من أحدٍ......فحسبك الله في كلٍ لك اللهُ
أيها المكروب إن الأيام دُول، وإن اليوم لغيرك والغد لك، أشد لحظات الليل ظلمة هي أقربها إلى نور الفجر، وحسبك أنك بالإيمان يكون الأمر كله خيرًا لك، فإن أصابتك سراء شكرتَ فكان خيرا لك، وإن أصابتك ضراء صبرتَ فكان خيرا لك.
القدس لنا:
يشاء السميع العليم، وجرت مقاديره، بأن يوافق ذكرى الإسراء والمعراج هبّة فلسطينية من أجل تلك الأرض المباركة التي تضمّ مسرى الحبيب، لتقول للعدو والصديق أن النضال من أجل أقصانا لن يتوقف، وأن قلب الأمة لا يزال ينبض، وقبلها بأيام معدودات، تُفجع الأمة بمن يفترض أنهم حماة العقيدة والقائمون على أشرف البقاع والمقدسات، وهم يؤكدون حق اليهود في أن يعيشوا بسلام على أرضهم.
فأي أرض وهم الغاصبون المحتلون، أولئك الشراذم الذين أتوا إلى تلك البقاع عُنوة وغصبا بمعاونة البريطانيين وحلفائهم؟
فجاءت الذكرى العطرة بكل ما فيها من إشارات ظاهرة لكل لبيب لتقول إن تلك الأرض ليست لليهود.
عن أي أرض تتحدثون، وقد ثبت تاريخيا أن العرب اليبوسيين هم أول من سكن أرض فلسطين، ولو رأيتم أن لليهود حقا في فلسطين لأنهم سكنوها بضعة قرون، فليكن الشأن نفسه مع مصر فإنهم سكنوها، وليكن الشأن نفسه مع المدينة المنورة، فقد كان فيها يهود بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع، فامنحوهم مصر والمدينة إن كنتم صادقين.
تتحدثون عن النص التوراتي الذي يقول "لك ولنسلك أعطي هذه الأرض" والخطاب لإبراهيم عليه السلام، وبه تحتجون على تبعية الأرض لبني إسرائيل، ونحن نسألكم بدورنا:
وهل بنو إسرائيل (يعقوب) وحدهم هم أبناء إبراهيم؟ أليس إسماعيل جد نبينا هو الابن الأول لإبراهيم عليهم جميعا صلوات الله وسلامه؟
ثم نسألكم مرة أخرى: هل ينتسب إلى إبراهيم مَن جاءوا من نسله وحرّفوا الكتاب وقتلوا الأنبياء ونسبوا إليهم العظائم والمنكرات؟ أم الذين جاءوا من نسله وظلوا على حنيفيته السمحة، وآمنوا بجميع أنبياء الله ورسله، لا يفرقون بين أحد من رسله؟
أليست الأرض كلها ملكا لله؟ فإن قلتم لا فلستم من أهل الإيمان ولا الإسلام، وإن قلتم نعم، فإن الله يقول {الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}.
تفكروا يا أمة محمد في المعجزة، لقد أُسري بالحبيب من مكة إلى القدس، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى السموات العلى، إلى ما هو أعلى وأعلى، فلماذا لم يُعرج به مباشرة من مكة إلى السماء؟
الجواب كما أخبر الثقات العارفون بالتفسير، أن الحكمة من ذلك هي التأكيد على انتقال السيادة على الأقصى من بني إسرائيل إلى أتباع الرسالة العالمية المهيمنة التي هي خاتم الرسالات وجاء بها خاتم النبيين، ويدعم ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد صلى بالأنبياء والرسل في الأقصى إماما.
القدس للمسلمين مهما تنكر لذلك المتزلفون والمنبطحون، تنبَّأ بفتحها نبينا صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، وفتحها الفاروق عمر، ثم حررها صلاح الدين، وهي الآن تنتظر من يكسر أغلالها.
الصلاة الصلاة:
إنها الفريضة الوحيدة التي شُرعت في السماء، ومباشرة بلا واسطة ملائكية بين الله وبين نبيه صلى الله عليه وسلم، فشأنها أجل وأعظم من أن يتعامل المسلم معها بالتفريط والتهاون، {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}.
أين الساجدون الراكعون؟ لماذا تخلو المساجد إلا من شيخ مسن محدَودب الظهر؟ أو مريض استشعر دنو الأجل؟ أو من طفل جاء يلهو؟
أين الشباب عمار بيوت الله، الصلاة الصلاة، لا حظَّ في الإسلام لمن ضيع الصلاة، هكذا قال عمر وهو في جرحه الذي مات فيه يثعُب دمًا، فذكَّروه بالصلاة وهو لها في كل حين مُتذكّر، تحْدُوه وصاية الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر حياته (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم}.
إنها الصلاة يا أهل الإسلام، عمود الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدمه، هي آخر صلة بين العبد وربه من أفعال العباد، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وكان الأوائل يأتون إلى بيوت الله رغم كل مشقة ونصَب، فيُؤتي بالرجل يُهادى بين الرجلين، لا يريد أن يتأخر عن ركْب الصالحين.
كونوا صِدّيقين:
لما حدثت هذه المعجزة، ارتدّ من ارتدّ من أهل الإسلام مِن ضِعاف الإيمان، وقالوا كيف يُعقل أن يذهب محمد من مكة إلى القدس ثم يُعرج به إلى السماء، ثم يرجع إلى مكة، كل ذلك في جزء من الليل؟
فكان امتحانا واختبارا، تمحَّصت به الصفوف، ليبقى إلى جوار النبي أصحابُ العقيدة الصلبة والإيمان العميق.
وفي المقابل، لما أخبر المشركون أبا بكر بما يقول النبي، لم يفكر، ولم يتريث حتى يسأله، بل قال: "إن كان قد قال، فقد صدق"، ومن يومها سُمّيَ بالصديق.
هذا هو الإيمان، مُطلق التصديق والتسليم والانقياد، فلا مجال لمعارضة النقل الصحيح القطعي، ولا يسع أحدا آمن بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا أن يتشكك في أمر جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والمُبلّغ عن ربه.
لما قال الحبيب لأصحابه (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) لما قالها، لم يذهل أصحابه ولم يتناجوا في شأن الحديث هل يقبلونه أم يردونه؟
وجاء بعدهم من أهل الإسلام من ينكر هذا الحديث الصحيح، وعدّوا ذلك من الرجعية والتخلف، إلى أن أثبت العلم الحديث أن الذبابة تحمل في أحد جناحيها مرضا وفي الآخر الدواء لهذا المرض، وأنها تنزل بالجناح الذي يحمل المرض، وأهل الإيمان مع ذلك لا ينتظرون إثباتا من أحد، فهم يؤمنون بما جاء به رسول الله، ويؤمنون أنه يأتي بما شرعه الله.
ألا وإنها فتنة تأخذ من إيمان الناس في هذا الزمان، حيث تسلط أصحاب الفكر العفن على الأمة، وصارت لهم منابر إعلامية يبثون خلالها سمومهم حول الكتاب والسنة، ويشككون فيما جاء به الوحي، بدعاوى التنوير واحترام العقل، مع أنه قد تقرر لدى المحققين والعلماء الربانيين في كل عصر، أن النص الصحيح لا يعارض العقل السليم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليقك