بقلم: د. نزار رمضان
عندما تغيب شمس الحرية عن الإنسان ويحاصر في جسده ومتطلبات حياته يبقى سلاحا واحدا ينافح من أجله ويبذل الغالي والنفيس .. وهو يجاهد، كيف يحقق ما يجول في وجدانه وقلبه .. فكيف إذا كان مفكرا ورجلا قرآنيا يمتلك العزيمة والمشاعر؟ عندها يصبح القيد لا قيمة له .. وظلمة الزنزانة بالنسبة له ومضة في عتمة الضحى.
هكذا عرفت الطبيب الثائر الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي غيبته معتقلات الاحتلال عندما كان ناشطا فعالا في جماعة الإخوان المسلمين في قطاع غزة وبعدها في جامعة الإسكندرية .. أول لقاء جمعنا به يوم كنا طلابا في جامعة الخليل عام 1983م، وكنا نحط رحالنا في زيارات صيفية لقطاع غزة، فيحتضننا المجمع الإسلامي وساحات الجامعة الإسلامية .. ونحن نستمع للطبيب الثائر المتوقد حماسا وفهما ووعيا .. وهو يخاطبنا : أنتم جيل المستقبل .. أنتم منارات الصحوة الإسلامية .. أنتم شموع الحركة الإسلامية فحافظوا على العهد .. عندها نعود أدراجنا وقد انتعشت قلوبنا بالحماس والعزيمة.
اعتقل الدكتور الرنتيسي في معتقل النقب الصحراوي عام 1988م وقد كانت ظروف الاعتقال صعبة، فلا طعام ولا دواء ولا غطاء إلا بالقطارة .. كان المعتقل في تلك الفترة مكتظا بالآلاف بسبب أحداث الانتفاضة المباركة، وكان الحصول على أي مطلب حياتي للأسرى ليس سهلا فحض الدكتور الرنتيسي الأسرى على الاحتجاج والإضراب ورفض استقبال إدارة المعتقل، وتطورت الأحداث، وحضر مراسل التلفزيون الصهيوني القناة الثانية وطلب متحدثا باسم الأسرى ليجري مقابلة معه حول أوضاع الأسرى .. فتمنع الكثيرين خوفا من القمع، فتقدم الدكتور الرنتيسي وتكلم بلغة القائد الفذ: وقال مشكلتنا ليست نقصا في الطعام ولا في الصابون وحاجاتنا اليومية!! مشكلتنا الأساسية التي ثار الأسرى من اجلها هي أن اعتقالنا الإداري ليس قانونيا .. فهو مرفوض دوليا، ودولتكم الغاصبة تدير ظهرها لكل القوانين .. لذلك ستستمر احتجاجاتنا حتى الإفراج عنا!!. فوجئ الأسرى بهذه الفلسفة في المواجهة التي حولها الدكتور الرنتيسي من مطالب حول الطعام والشراب وغيرها إلى قضية سياسية ودولية؟!.
وتسطع عزائم الرجال وشكيمتهم من خلال مواقفهم في الميدان، ففي عام 1991م وخلال وجود الدكتور الرنتيسي في معتقل النقب الصحراوي حضر جنرال صهيوني يدعى ( شلتائيل) وقد كان مهيوبا ويخشاه الأسرى، فطلب مقابلة قيادات الأسرى وكان في مقدمتهم الدكتور الرنتيسي، وعندما دخل عليهم (شلتائيل) قام الأسرى وصافحوه إلا الدكتور الرنتيسي الذي بقي جالسا فقال له الضابط: لماذا لم تقم؟ فقال له الدكتور الرنتيسي أنا لا أقوم إلا لله .. وأنت لست إلها؟ فغضب الضابط الجنرال وعوقب الدكتور الرنتيسي بالسجن الانفرادي في زنزانة صغيرة لمدة ثلاثة أشهر.
ولم تكن مواقف الطبيب الثائر مجرد طفرة أو موسمية وإنما كانت منهجا يسطر للأجيال في كل المراحل والساحات، ففي السابع عشر من شهر كانون أول عام 1992م كانت الحافلات الصهيونية تنقل المئات من قادة ورموز ونشطاء الشعب الفلسطيني وعلى وجه الخصوص رموز الحركة الإسلامية الفلسطينية، في أكبر عملية إبعاد جماعي إلى الجنوب اللبناني وكنت أحد هؤلاء المبعدين .. وعندما انتهى بنا المطاف إلى الحاجز العسكري لجيش لبنان العربي على مدخل قرية مرج الزهور .. نزل الدكتور الرنتيسي من الشاحنة اللحدية، وخاطب الضابط اللبناني العربي قائلا: نحن لا نريد دخول لبنان !! لا تسمحوا لنا بالدخول .. نريد أن نعود إلى وطننا، فعادت الشاحنات التي تقل المبعدين إلى (حاجز زمريا) العسكري الذي تسيطر عليه قوات الاحتلال الصهيوني وقوات لحد العميلة.
شكل الطبيب الثائر بكاريزما مواقفه الفذة وبراعته ولباقته وفطنته عنوانا للمبعدين، فكان أول نشاط لهم تشكيل اللجنة الإعلامية التي كنت أحد أعضائها، وكان في عضويتها؛ الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والدكتور عزيز الدويك، والدكتور محمود الزهار، والدكتور عاطف عدوان، والشيخ جمال منصور، والشيخ جمال سليم، والإعلامي حيدر عبوشي، وفي تلك الجلسة انتخبنا الدكتور عبد العزيز الرنتيسي ناطقا إعلاميا للمبعدين فكان خير سفير وممثل لهم ، خاطب الإعلام المحلي والإقليمي والعالمي وجعل من قضيتهم حدثا ساخنا أرهق المتسببين والمتربصين، وأحرج المجتمع الدولي ومجلس الأمن الذي طالب بعودة المبعدين فورا وفق قرار 799 الأمر الذي أحرج سلطات الاحتلال، ووافقت على عودة المبعدين على دفعتين.
كان يوم عودة المبعدين يوما مشهودا، دخلت الجموع عبر الحاجز العسكري الاحتلالي واللحدي، وكان آخر عائد دخل الحاجز الدكتور الرنتيسي كي يتأكد من عودة الجميع، واصطف المبعدون، فتقدم ضابط لحدي من الدكتور الرنتيسي وقال له: هل تريد أن تشرب كأسا من الشاي قال له لا، فرد الضابط اللحدي .. مرة أخرى .. أو كأسا من القهوة .. فقال الرنتيسي لا أريد .. فرد الضابط وعرف لغز الرفض وقال أنا أدرك أنك لا تريد ماء أيضا!! فقال الرنتيسي وحتى الماء لا أريده .. فكان عبارات الرفض المتتالية للحدي العميل رسالة لها مغزاها وهدفها.
وفي نفس المكان حيث قوات كبيرة مدججة بالسلاح ومئات ضباط المخابرات والاستخبارات وطائرات مروحية وأبراج عسكرية عليها الأسلحة الرشاشة الثقيلة .. في هذا الجو الرهيب تقدم ثلاثة صحفيين جنود صهاينة يلبسون ملابس عسكرية ويحمل أحدهم على كتفه كاميرا تلفزيونية كبيرة، حيث كانوا يعملون مراسلين لتلفزيون جيش الاحتلال، وأجروا مقابلة مع الدكتور الرنتيسي وهو واقف في طابور الانتظار وكنت بجواره اسمع ما يدور، فسأله المراسل العسكري: دكتور رنتيسي أنتم اليوم تعودون إلى بيوتكم وكانت وكالات الأنباء قد قالت إن عددا من المبعدين تلقوا تدريبات على تفجير المفرقعات على يد حزب الله، فهل هذا سيزيد من فعالية كتائب القسام ضد دولة "إسرائيل"؟ فرد الطبيب الثائر بكل ثقة وعزيمة وجرأة: أن كتائب القسام قد نفذت العديد من العمليات ضد الاحتلال والمبعدون في جنوب لبنان، فقدرتها وقوتها وشجاعتها قادرة أن تنفذ المزيد من العمليات دون أي دعم خارجي!! فما كان من جموع المبعدين إلا أن كبروا بصوت واحد ... الله أكبر ولله الحمد.
وتسطع ذكريات الطبيب الثائر فتشرق كما الشمس في وضح النهار ينعم بضيائها الجميع .. فكان دعوة وحركة في حياة رجل .. كم كان لي الشرف وأنا أنهي أخر صفحة في كتابي (على مشارف الوطن .. المبعدون الفلسطينيون في مرج الزهور) الذي نشر في بيروت عام 1993م عندما خط له الدكتور الرنتيسي تقديما مميزا قال فيه: (من هنا أجد نفسي أتقدم بكل الاحترام والتقدير للأخ الفاضل نزار رمضان على كتابه هذا الذي يصلح أن يكون مصدرا للتوثيق ومنهلا للحقيقة ترتوي منه الأجيال القادمة.
فلقد نقل لنا الحقيقة المجردة، ووثقها بالوثائق والصور ثم ربط الماضي بالحاضر كي تكتمل الصورة صورة المعاناة القديمة الحديثة لشعبنا الفلسطيني المنكوب.
وكم كان رائعا وهو يتابع تصريحات ومواقف العدو والصديق ليحيط القارئ بجميع جوانب الحدث، فيخرج بعد ذلك بصورة صادقة متكاملة.
كنت أثق في تحليلات الدكتور الرنتيسي وأقدرها حول التطورات السياسية، ففي عام 2002م وأنا أقبع في معتقل عوفر العسكري، شكلنا لجنة سياسية تقوم بكتابة تحليلات سياسية توزع على المعتقلين من خلال ما كان يعرف بالدوارات، ووكل أمر هذه اللجنة لي، ولم يكن حينها لدينا تلفزيونات أو أجهزة راديو كما هو الحال اليوم .. ولكن كان عندنا هاتف نقال نتصل من خلاله بالخارج، لإحضار الكانتينا والاتصال بوزارة الأسرى والفصائل والأهل .. فكنت قد منحت من قيادة حركتنا الأسيرة إذنا بالتكلم الخارجي لمدة نصف ساعة زيادة عن الأسرى وذلك لشؤون التحليل السياسي .. وكانت هذه النصف ساعة هي مكالمة متواصلة مع الدكتور الرنتيسي ليملي علينا تحليلا سياسيا دوريا نقوم بكتابته ونسخه ومن ثم توزيعه على الأسرى !.
ذكريات يعجز عن سردها اللسان ولم يبددها النسيان .. أمام القائد النموذج والطبيب الثائر الدكتور عبد العزيز الرنتيسي في ذكرى استشهاده الرابعة عشرة.
* نائب في المجلس التشريعي الفلسطيني
أضف تعليقك