• الصلاة القادمة

    العشاء 17:29

 
news Image
منذ ثانيتين

الدكتورة هبة رؤوف عزت

 

البيعة بما تعنيه من التزام بالشريعة، والشورى بما تمثله من مشاركة للأمة في الإدارة السياسية؛ هما أساس النظام الإسلامي، لكن الأهم هو تكييف النظام ذاته باعتباره ولاية وإقامة للدين وتدبيرًا للمصالح العامة على الجملة أو ولاية حفظ الدين وسياسة الدنيا به، وهذا ليس وصف نظام سياسي سلطوي، بل جوهر الولاية الإيمانية لكل مسلم؛ لذا يلزم عند الحديث عن الجهاد البدء بالفرد ودوره وأشكال هذا الدور قبل الحديث –الذي لا غنى عنه-عن حرب وجيش ومدافع.

 

الفعل الجهادي في الداخل أولاً

 

قبل الحديث عن جهاد الخارج تبدأ فاعلية المواطن المسلم في الداخل، في تأسيس وضمان نظام سياسي عادل وشوري(بكسر الياء) يمكن أن يجاهد أعداء الخارج؛ لذا فلا تنفصل الفاعلية السياسية للمسلم في الداخل عنها في الخارج، فقبل المجاهد يجب أن يكون هناك المواطن الحاضر الفاعل الشاهد على الجماعة المسلمة وعلى العالمين (لتكونوا شهداء على الناس)، فالشهود يسبق.. الشهادة!

 

وتتأسس الطبيعة التعاقدية للبيعة السياسية التي تؤسس نظام الشورى النيابي في الإسلام على 'التفويض' في حين يذهب آخرون إلى أنها 'وكالة ونيابة'، لكن يبقى الجوهر هو أن نظام الحكم في الإسلام قائم على حاكمية الله أي كونه تعالى مصدر الشريعة، والأمة صاحبة الشريعة، ونظام الإدارة السياسية الممارس والمنفذ لهذه الشريعة في الجانب القانوني والتنفيذي/الإداري، وعلى ذلك فإن الوجه الآخر للبيعة هو المسؤولية السياسية لأفراد النظام السياسي، فسلطتهم ليست مطلقة بل مقيدة بالشرع والشورى؛ وبذا يصبح عدم الالتزام بالشرع وترك الأخذ بالشورى واقتراف الظلم موجبًا للمسؤولية السياسية للنظام ومبررًا لعزله، واسترداد الأمة ولايتها مرة أخرى لتعهد بإدارتها إلى غيره.

 

ويأخذ عزل النظام أشكالاً سلمية مثل عزله عن طريق أهل الحل والعقد أو محكمة المظالم أو حتى تنحية الخليفة/الرئيس ذاته، كما قد يأخذ الشكل العنيف أو ما يسمى بالخروج على الحاكم، وهو الذي انقسمت بشأنه الآراء في الفكر الإسلامي إلى ثلاث مدارس رئيسية: مدرسة الصبر، ومدرسة السيف، وبينهما مدرسة التمكن كشرط للخروج، واجتمعت تلك المدارس كلها رغم اختلافاتها على ضرورة الخروج على الحاكم إذا ارتكب كفرًا صريحًا، وهو الشرط الذي بقي تاريخيًّا أقرب إلى الفرض النظري البحت للتحقق الواقعي.

 

واللافت للنظر والجدير بالتأمل أن هذه المدارس رغم اختلافها كانت ترى الثورة المسلحة شكلاً أساسيًّا من أشكال التغير السياسي، فالفريق الأول يرفضها لمحاذير خاصة بوحدة الأمة ويفضل التغيير بالقلب واللسان، والفريق الثاني يقبلها ويبررها إذ التغيير لازم باليد، والفريق الأخير يقبلها بشروط، ولكنها تبقى في التحليل الأخير محور الخلاف، ولم تتعرض الكتابات الفقهية أو الفلسفية إلا نادرًا لمسألة المقاومة السلبية وعدم التعاون مع الحاكم، وظل تناول هذه المسألة يأخذ البعد الفردي؛ حيث أشار البعض إلى سلوك بعض العلماء ومقاطعتهم للحكام الظالمين، ولم يتم طرح الأمر على المستوى العام.

 

وإذا كانت المدارس الفكرية الإسلامية قد اختلفت في هذه القضية مع وجود الدولة الإسلامية التي تحكم بالشرع وإن شابها قصور، فإن الحاجة تصبح ماسة في ظل الدولة القطرية العلمانية التي سادت كشكل من أشكال الدولة في معظم بلدان العالم الإسلامي إلى إعادة النظر في 'خطاب الخروج' وتجديده. فقد ترتب على انهيار القيم الحضارية واختفاء الدولة القومية المتكاملة أن حدث انفصام بين النواحي العقيدية والنواحي النظامية، ولم تقتصر الأنظمة الحاكمة على الفصل بين الدولة والعقيدة، بل دخلت مع الأخيرة في صراع وتخاذلت عن الدفاع عن مقدسات الأمة المعنوية والمكانية بشكل لا يحتاج هنا البتة لتوضيحه وتفصيله، وبدلاً من أن تعلن الدولة القطرية الالتزام بالشرع، وتجعله أساس النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتقيم على نهجه علاقاتها الدولية، تبنت هذه الدولة الأيدلوجيات الوضعية، وأسست عليها نظمها المختلفة مما أدى إلى وقوعها في أزمة شرعية حادة نتيجة تخليها عن أداء وظيفتها العقيدية، بل وحتى وظائفها المفترضة في النظرية الغربية، وهي تحقيق التكامل والهوية والشرعية والمشاركة والتوزيع، وبناء مؤسسات تتسم بالتكيف والتعقد والاستقلال والاتساق.

 

ويثور في هذا السياق التساؤل: كيف استطاعت الدولة القطرية الاستمرار رغم أنها لم تحقق وظائفها ولم تتسق في شكلها وطبيعتها مع ثقافة الأمة وظروفها الحضارية؟

 

يرجع البعض استمرار الدولة القطرية العلمانية في المحيط الإسلامي والعربي ـ بل وترسخها في التربة الواقعية بعد قرابة نصف قرن من نشأتها ـ إلى قدرتها على بلورة آليات لاستيعاب الجماعات والفئات المختلفة، والمؤسسات الفكرية والدينية والأحزاب والقوى السياسية، وتوفيرها للحد الأدنى من المطالب والمخرجات التي تتطلبها بيئة النظام السياسي من ناحية، إلى جانب استخدام العنف واعتمادها المتزايد على القمع من ناحية أخرى، في حين ترجع دراسات أخرى استمرار الدولة إلى أثر العوامل الخارجية والظروف الدولية وطبيعة النظام الدولي القائم، وترى أن الدولة القطرية نشأت في البداية كانعكاس للطبيعة السياسية لهذا النظام الدولي في مرحلة الاستعمار. واستمرارها يرجع إلى طبيعة شكل الدولة السائد فيه الآن، وطبيعة النظام الاقتصادي الدولي الرأسمالي المهيمن وحسابات السوق العالمية، والتي تحقق نجاحها بالاعتماد على هذا الشكل من العلاقات غير المتكافئة.

 

إن الدولة القطرية لم تتحرر حقيقة بعد الاستقلال، بل خضعت لأشكال جديدة من التبعية الاقتصادية والسياسية بل والإعلامية والتربوية، وهو ما يُسمى بالاستعمار الجديد أو 'الاستعمار الهيكلي' الذي تتداخل فيه السيطرة الخارجية مع الاستبداد السياسي والقوى الدولية مع النخب الحاكمة في علاقات ومصالح تصفها بعض الكتابات بأنها علاقة مركز بهامش، مما يجعل موضوعي 'الجهاد' و'الخروج' متداخلين في الواقع العملي، ولا يمكن فهم أي منهما بمعزل عن الآخر.

 

فالجهاد وظيفته إقامة الدين وحفظه وإزالة الشرك ومواجهة أي عدوان يستهدف الشريعة أو أي اعتداء على الدولة الإسلامية ونظامها من جانب أي قوة خارجية، وهي ذات الأهداف التي يتم 'الخروج' من أجلها لكن في مواجهة نظام الحكم الداخلي حال استبداده وتركه الشورى.

 

إن حفظ الدين كأول مقاصد الشرع هو غاية كل من الجهاد والخروج، كما أن كليهما أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. والأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه فرض كفاية أي إن الأمة كلها مكلفة بإقامته، لكنه إذا التزم كل واحد بذلك لم يتفرغ الناس لمصالح دنياهم؛ لذا يصبح واجبًا في حق الدولة خاصة في الأمور النظامية ويسقط عن الأفراد إلا في الأمور الفردية اللازمة لضبط علاقاتهم، فإذا قصرت الدولة أصبح واجبًا على كل فرد؛ وبذا تصان الأمة من عوامل الانهيار الذي هو نتيجة حتمية للانحراف عن الشرع.

 

والجهاد فرض كفاية عند جمهور الفقهاء، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا لم يقم به من فيه كفاية أثم الجميع، وهو واجب على الكافة إذا دخل العدو ديار المسلمين، كما أن مراقبة النظام وتقويمه فرض كفاية يقوم به أهل الاجتهاد وأهل الحل والعقد الذين لهم حق نقض بيعة الحاكم وعزله إذا أخل بالشريعة الإسلامية، فإذا لم يفعلوا وأضحى العمل بالشريعة موضع تهديد أصبح الامتناع عن طاعة الحاكم واجبًا على كل أفراد الأمة.

 

جهاد مسلح.. أم لا شيء؟!

 

وإذا كان الجهاد المسلح قد صار في أحيان كثيرة متعذراً نظرًا لطبيعة الاستعمار الجديد الهيكلية، كما أضحى الخروج المسلح أيضًا صعباً في أقطار إسلامية عديدة لقوة الدولة وبطشها في مواجهة المجتمع، فإن الجهاد والخروج لا يَسقطان كواجب على الأمة، بل يأخذان شكلاً مختلفًا يتفق والواقع الراهن الذي تمر به الأمة الإسلامية، والذي لم يسبق له مثيل في تاريخها، ألا وهو الشكل الهيكلي، أي الذي يجعل تحرير الأبنية والمؤسسات والهياكل هو ساحة الجهاد الأولى ومجال الخروج بهدف استعادة سلطان الأمة وحاكمية الشريعة الإسلامية.

 

لقد أصبحت ساحة التنمية هي أقرب وأول ساحات العمل الجهادي، وساحة المجتمع هي ساحة استعادة الشرعية الإسلامية، فالتنمية يلزم أن تكون عملية تحرر شامل وتغيير بنائي اجتماعي واقتصادي وسياسي متكامل ذات أبعاد قطرية وقومية تقوم على تعبئة الإمكانات وتوظيفها بأفضل ما يمكن لتحقيق استقلال الأمة، مع بلورة آليات للتنمية لا تقتفي بالضرورة أثر النمط الغربي، بل تعتمد على القدرات الذاتية وتتسق مع البناء الاجتماعي والثقافي، وتعتمد على الإنسان وتحدد بدقة مجالات الدولة ومجالات الجماعة كي يتم التوزيع الواعي للأعمال الحضارية، فالجهاد في مجتمعات إسلامية عديدة ينبغي أن يكون تربويًّا وإعلاميًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وهو ما يتطلب نفيرًا عامًا 'يحضر' فيه المجتمع بعد أن غابت أو عجزت النظم السياسية.

 

أما الخروج فإن الشكل الذي يجب أن يطرح له ويتم تأصيله فكريًا وبلورة آلياته واقعيًا هو ما يسمى 'الدفاع الشرعي العام' في كتابات إسلامية، و'العصيان المدني' في الكتابات الغربية. فإذا كان العنف ـ كوسيلة لتغيير أنظم الحكم المخترقة التابعة ـ غير مطروح في أقطار إسلامية كثيرة لأسباب داخلية وعوامل خارجية فإن 'اللاعنف' قد يصبح في لحظة تاريخية ما سلاحاً متاحاً في تحقيق التغيير، ومن هنا تصبح الانتفاضة نموذجاً فعالاً للتغيير في كل أرض ومكان، و'المقاطعة' أداة بسيطة للتعامل الفردي الراشد مع النظام العالمي الرأسمالي الذي اخترق الحدود وصولاً لاختيارات الفرد الاستهلاكية اليومية.

 

وتقوم فكرة 'الدفاع الشرعي العام' على حرمان النظام السياسي غير الشرعي من المساندة والتأييد لإهداره الشرعية الإسلامية، فالامتناع عن المشاركة في أمر غير شرعي نتيجة طبيعية لإخلال الحاكم بواجباته وفي مقدمتها الالتزام بإقامة شريعة الله، والنظام الإسلامي يقوم على الالتزامات، فإذا أسقط الحاكم واجبه سقط واجب الرعية في طاعته ونصرته، وهو الامتناع الذي يأخذ صورًا عديدة كالاحتجاج الرمزي وعدم التعاون الجماعي والاعتصامات والإضرابات والمقاطعات الاقتصادية وغيرها من 'أسلحة اللاعنف'.

 

وتنقسم أساليب عدم التعاون إلى ثلاثة مستويات:

 

- أساليب عدم التعاون الاجتماعي: وتتضمن المقاطعات الاجتماعية.

 

- أساليب عدم التعاون الاقتصادي: وتتضمن المقاطعات الاقتصادية والإضرابات.

 

- أساليب عدم التعاون السياسي: ويطلق عليها أيضًا المقاطعة السياسية.

 

وحين يرفض المجتمع التعاون مع النظام ومع الهياكل الاقتصادية الرأسمالية ويصر على العصيان والمقاومة غير العنيفة، فإنه يحرم هذا النظام الخارج عن الشريعة من الدعم الذي تحتاجه أي حكومة أو نظام ويفقده عناصر قوته، وهو ما يؤدي في النهاية إلى سقوطه حتى وإن لجأ للقمع في مواجهة هذه الحركة المجتمعية الشاملة؛ إذ لم يصمد أي نظام في مواجهتها إذا أحسنت إدارة اللاعنف، واستخدمت الآليات المختلفة بشكل جيد، مع ملاحظة أن وجود نظام بديل أو حكومة ظل من الرموز الاجتماعية والسياسية يصبح أمرًا لازمًا كي يمكن استبدال النظام المتهاوي، ولا تحدث عند سقوطه فوضى شاملة.

 

ولما كان تحرير الأبنية المختلفة من التبعية يستلزم مشاركة الجماهير في جهود التنمية بشكل فعال، في حين تعد آلية الامتناع والعصيان أهم أدوات مقاومة استبداد الأنظمة العملية داخليًا، فإن التوفيق بين الآليتين يجب أن يدار بشكل منظم من جانب القوى الاجتماعية؛ بحيث يتم دعم قطاعات اقتصادية وسياسية معينة لدفع استقلالها وتطورها، في حين تتم مقاطعة قطاعات أخرى وحرمانها من المساندة والتأييد لإضعافها مع انتقاء لدرجات الدعم ودرجات الامتناع في كل موقف حسب المصلحة الشرعية وبلورة أشكال مجتمعية تحتية موازية وجديدة تحقق للمجتمع تماسكه وتكفل له القدرة على الاستمرار في الجهاد والخروج الهيكليين.

 

المرأة فاعل رئيسي

 

ويعد هذا السياق مناسباً لمناقشة ودعم دور وجهاد المرأة في المجتمع الإسلامي المعاصر، فإذا كان هناك إجماع على وجوب الجهاد على المرأة عند دخول العدو دار الإسلام والنفير العام، بل ذهب البعض إلى أنها تقاتل حينئذ بغير إذن زوجها. وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبًا على كل مؤمنة بنص الآية: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التوبة: 72)، فإن المرأة في ظل الظروف الراهنة للأمة يجب عليها وجوب عين الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شتى مستوياته ومنها الخروج، وكذلك الجهاد بمستوياته وأدواته المختلفة، وهو الأمر الذي أغفلته كثير من الكتابات المعاصرة عن المرأة، والتي اكتفت إما بالسرد التاريخي لدور المرأة في مجتمع الرسول، أو التخريج الفقهي لحكم جهادها دون تنزيل الحكم على واقع المرأة المسلمة في ظل التحديات التي تواجه الأمة.

 

واقتصر تحليل دور المرأة في 'الخروج' على تناول وقائع مشاركة السيدة عائشة في موقعة الجمل والخروج على علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وعلى آل البيت والصحابة أجمعين، في حين ظل طرح حكم جهاد المرأة يدور في إطار فرضية الكفاية دون التفات إلى أن فريضة الكفاية لا تنفي مشاركة النساء وفق القدرة والرغبة في القتال المسلح والخدمات الإنسانية والطبية العسكرية كما حدث على عهد رسول الله، وهو ما يتطلب قيام الدولة بتوفير التدريب العسكري على فنون الحرب المختلفة للقادرات الراغبات، إلى جانب توفيرها لتدريب عام على الدفاع المدني للكافة كي تكون كل امرأة مؤهلة ومستعدة إذا ما أضحى الجهاد فرض عين وتهددت الدولة الإسلامية، وهو حال العديد من البقاع الإسلامية اليوم.

 

أما في حالة عدم توفر شروط القوة اللازمة للجهاد المسلح ووجوب الجهاد الهيكلي فإن النساء يلتزمن بالمشاركة في جهود التنمية في شتى المجالات، كل واحدة على قدر جهدها ووسعها وقدرتها، وتقديرها لظروفها، مع الوعي بأن هذا ليس عملا اختياريًّا أو تطوعيًّا بل هو جهاد اللحظة الراهنة، جهاد حقيقة لا مجازاً.

 

ويتميز طرح مسألة حركة المرأة في العمل السياسي في الواقع الراهن من خلال مدخلي الجهاد والخروج الهيكليين بما يلي:

 

- إنه يمثل إطارًا مرجعيًّا شرعيًّا لحركة المرأة يجعل مسئوليتها في الفعاليات الاجتماعية والسياسية المختلفة، مشاركة أو امتناعًا واجبًا عينيًا، وهو ما يشكل أساسًا تعبويًا يقوم على عقيدة الأمة ويدفع لدمج المرأة في أنشطة الأمة، وهما الدمج والتعبئة اللذان فشلت شعارات التنمية والمواطنة الصالحة في تحقيقيهما على مستوى معظم قطاعات النساء في العالم الإسلامي.

 

- إن هذا الإطار الجهادي يسمح برغم السياق الاجتماعي الراهن ـ الذي يقيد حركة المرأة في مجتمعات إسلامية عديدة ـ بحركة واسعة للمرأة؛ إذ إن السياق الاجتماعي عادة ما يصبح أكثر مرونة في ظل المناخ الجهادي عنه في الظروف العادية، وهو ما يمكن أن يعطي النساء دفعة لتغيير أوضاعهن تحت مظلة الشرعية الإسلامية.

 

- إنه يشكل خطابًا جديدًا يتجاوز الجدل السائد بشأن عمل المرأة، والذي يتراوح ما بين الخطاب العلماني الذي يرى أن عمل المرأة خارج بيتها بمقابل مادي هو معيار استقلالها الاقتصادي ومساواتها الاجتماعية وأساس مشاركتها السياسية، والخطاب الإسلامي الذي تتفاوت درجاته بشأن عمل المرأة خارج بيتها بين التحريم والإباحة؛ إذ يصبح عمل المرأة واجبًا شرعيًا في سياق الجهاد ويرتبط بالأمة، وهو ما يميزه عن الرؤية العلمانية التي تعتبره مكسبًا فئويًا وطموحًا فرديًا مشروعًا.

 

- إنه يمثل مدخلاً للتعامل بواقعية مع السياق التاريخي الذي تمر به الأمة؛ إذ تفرق فرضية العين بين النساء وظروفهن فتكلف كل امرأة بما يلائم قدراتها ومرحلتها العمرية والتزاماتها الأسرية، وتتحدد أولويات العمل بالمعايير الشرعية، وهو ما يجعل الاستثمار في 'رأس المال البشري' أي التربية في الأسرة، عملاً تنمويًّا لا يقل أهمية عن العمل الوظيفي العام، ويعطي العمل الاجتماعي بغير مقابل مادي ثقلاً موازيًا للعمل المؤسسي بمقابل مادي. فالعبرة في المنظور الإسلامي بتحقيق المقاصد وليست بدرجة المؤسسية أو البعد المالي.

 

عودة مؤسسات الأمة

 

لقد قام الاستعمار التقليدي ثم الاستعمار الجديد بتجاوز بل ومحاولة القضاء على الوحدات الاجتماعية للكيان الحضاري الإسلامي كالأسرة الممتدة والحارة والنقابة والجامع والطريقة، وهي الوحدات التي كانت تجذب الأفراد بشكل يومي إلى حلبة التفاعل السياسي، إلى جانب مؤسسات كالوقف والمستشفيات والمدارس والأسبلة والتي كان لها دور اجتماعي بارز، وهي الفاعلية التي افتقدتها المؤسسات المستوردة التي لم تستطع أن تحقق الصلاحية في المجتمع لغربتها عنه؛ لذا كان إحياء هذه الوحدات الاجتماعية لازمًا إذا أريد لجهود التنمية أن تنجح، وكان العمل الاجتماعي الذي يستهدف تنمية المجتمع ورفع مستوى أفراده والذي يسمى في الكتابات المعاصرة 'العمل التطوعي' في الرؤية الإسلامية واجبًا، ويكتسب عند الحديث عن مسؤولية المرأة السياسية أهمية كبيرة لتميزه بملاءمة شروطه وظروفه لظروف قطاعات واسعة من النساء، إلى جانب القبول الاجتماعي لحركة المرأة في إطار وهو ما يعطيها حرية أوسع في هذا المجال الهام.

 

كذلك فإن الدوران مع المقاصد والغايات في الرؤية الإسلامية، وليس الشكل المؤسسي، يفتح الآفاق أمام كل صور العمل الإنتاجي مثل الصناعات الصغيرة داخل المنازل، وهو ما يجعل فكرة 'تقسيم العمل الاجتماعي' بين الرجال والنساء ـ وهي فكرة غربية في الأصل ـ في حاجة إلى إعادة نظر، ودليلنا في نقضها ممارسة الرسول لدوري الرسول/القائد والأب بتوازن بالغ، وهي فكرة تتجاهل تداخل الواجبات وتعدد المستويات واختلاف النظرة الإسلامية للعمل وأشكاله والمؤسسات السياسية وآلياتها عن الرؤية الغربية، ووضع المسائل داخل الإطار الإسلامي والجهادي يعيد الفكر للسياق الإسلامي والواقعي معًا.

 

إن مشاركة المسلم في العمل الجهادي الهيكلي بكل صوره واجب عيني، وإذا كانت الرؤية الإسلامية تعطي ثقلاً أكبر في العمل السياسي لمؤسسات كالنقابات والاتحادات كما ذكرنا في معرض الحديث عن الشورى، وتعطي مسؤوليات أكبر لوحدات كالمساجد والمدارس والأوقاف كما ذكرنا آنفًا، فإن حركة المسلم يجب أن تركز على دعم هذه الأبنية، وإضعاف الأبنية الأكثر تغريبًا واختراقًا، وهو ما يستلزم بلورة آليات جديدة لحركة الفرد السياسية، ونظرة جديدة لمجالاتها، وصياغة جديدة لمؤشرات دراستها ومتابعتها تختلف عن المؤشرات المستخدمة في الدراسات الاجتماعية والسياسية الحالية.

 

إن غاية ما سبق ليس تعطيل الجهاد المسلح إذا توفرت فرصه، بل عدم الركون للدعة والراحة عند عدم استكمال عدته عملا بقول الرسول: إن الجهاد سيمضي في الأمة إلى يوم الدين.. وما سبق اجتهاد في تفصيل كيف يظل الجهاد ماضياً لا ينقطع حتى حين تسكت المدافع إلى حين؛ لأن جسد الأمة في مراحل الضعف لا يخمد.. بل يظل منتفضاً وحيًّا.

 

والله أعلم.

أضف تعليقك