بقلم: جمال الجمل
1)
أخي هشام
أكتب إليك هذه الرسالة من سجني الكبير، حيث تتحكم الديدان في الإنسان، آملا أن تصل رسالتي إليك في "مكعب الحرية" الذي دخلته طائعا، لتجلب النور من زنزانة الشياطين، كما فعل جدك بروميثيوس ليضيء دروب البشر التائهين. وأرجو أن تتفهم (يا أخي النزيه الصريح) ترميز وتلغيز كلمات الرسالة، فالحراس السود لا يرحمون الكلمات الصريحة في أرض الطغيان، لذلك وجب علينا التواصل والتفاهم بالأكواد والاقتباسات الموازية والرموز المشفرة، واثقا بأن القلوب الخضراء قادرة على وصل ما قطعته الأيادي السوداء.. قادرة على النجاة من #السقوط.
(2)
أخي هشام
لم أكن معك عندما أشهرت عزمك في مواجهة المسوخ، كنت في متاهتي حزينا لدرجة المرض، ومريضا لدرجة الحزن (لا فرق). وهذا الحال البائس يصيبني بالغثيان والارتباك كما يصيبني بمتلازمة فوبيا الفشل من إمكانية تغيير العالم، تتدنى لغتي حتى تصير سوقية صاخبة بعيدة عن نبع الثقافة الذي سعيت حثيثا للإقامة بالقرب منه، وتتعثر خطواتي على طريق "الفردوس المنشود" الذي يفصلنا عنه "الجحيم المفروض". أرى "المسافة العنيدة" وهي تستطيل وتباعد بيننا وبين ما نحلم به، وفي هذا الحال البائس أسأل نفسي عادة متشبثا بالوجود وبالتأمل العميق وبالفلسفة: لماذا تبدأ العلاقات والمواقف (والحياة كلها) حلوة وشهية، ثم تصدأ وتتآكل وتتحول إلى عجينة بغيضة لا يستسيغها الأسوياء؟ أظنك مريضا مثلي، وحزينا مثلي، لكننا برغم كل هذا لسنا من اليائسين، وإن كانت هذه الحالة مؤلمة (يا أخي الشريف) للحالمين من سلالة آدم وحواء، أولئك الذين ظلوا يخوضون معركتهم بوعي وطهارة مع الشيطان، منتبهين أيضا أن الصراعات تنشأ بينهم بحكم النزعات البشرية الفطرية، لكنهم بالحب والحكمة والتعاون (والثقافة) قادرون على تجاوزها حتى لا يحدث #السقوط.
(3)
نعم "السقوط".. ذلك الصديق الوفي المريب الذي يلازمني في الفترات الأخيرة، حتى تملكني الخوف، ليس خوفا من السقوط ذاته، ولكن تمسكا بما لا أريده أن يسقط، وتجنبا لفقدان فردوس يولد حلما فاتنا مع كل بداية جديدة، ويتحول مع الرعونة والغواية الخسيسة إلى كابوس مقبض، وهذا ما دفعني لترديد مقطع كابوسي من "الفردوس المفقود" لجون ميلتون يقول فيه: "بعد السقوط تمشي الخطيئة في الأرض، وخلفها ابنها الموت، يتبعها كظلها خطوة بخطوة، متأهبا لامتطاء حصانه المنهك"، وقد تخيلت كثيرا يا أخي هشام أن هذا المقطع يشبه صورة واقعية دقيقة ومرعبة لما بعد #السقوط.
(4)
تابعت بألم داخلي انكسار حربة المقاومة في يد فرسان الحق والحرية، تابعت حالة الضعف التي نمر بها، تابعت تشرذم قوات المحبة والشرف أمام جحافل الشياطين السود، ثم تابعت محاكمتك الهزلية على أنغام البنادق المشهرة بعيدا عن لغة اقوانين التي تجيدها بفصاحة، وسألت الناس من حولي: ماذا قال الشريف كي يتجاسر اللصوص على محاكمته؟
لقد قال الآدمي ما تقوله السماء: خير/ عدل/ حرية/ حب/ رحمة.. قال: لدينا فساد، قال: في الأرض فاسدون فاحذروهم.. واحذروا #السقوط.
(5)
قبل سنوات كنت (أنا) مثل الكاهن براند في مسرحية هنريك إبسن أصرخ في الجميع: "قضيتي.. كل شيء أو لا شيء".. كنت أضع خطوطا فاصلة بين الجحيم والنعيم كالقاضي المتشيء في مسرحية "شاهد ماشافش حاجة"، وأتعامل مع العالم بثنائية ضحلة: "يا أبيض.. يا أسود؟!"، لكن قوة الحياة علّمتني ألا أذهب في الأشياء حتى آخرها؛ لأن النهاية المعلومة للبشر جميعا هي الفناء، الاكتمال هو الزوال، والكمال ليس من صفاتنا ولا من صفات حياتنا، لهذا تعلمت ألا أتطرف في العداء، حتى لا أخلط الحق بالباطل، لكن هذه السماحة (المثقفة) كانت الثغرة التي تسلط منها علينا الجاهلون، فقلت لنفسي متأسفا نادما: من العار أن نوفر للصوص بيئة أفضل للسرقة أو الهرب، لابد من فضحهم مهما كان الثمن، حتى لا يحدث #السقوط
(6)
أخي هشام
بعد أن وصلني خبر نجاحك في إرغام محكمة عسكرية على إصدار حكم لصالحك بأنك "حر في أرض القهر"، نمت مشوشا، فزارني في المنام ثعبانٌ جميل حاملا كيسا من التفاح، وأخبرني أن "بعلزبوب" (أحد أسماء إبليس) لم يعد شيطانا يُضِل، بل صديقا يُظِل، فاستيقظت لأفتش عن وصايا رفائيل وهو يخطب متوعدا الشياطين في حوار "هاف بوست"، ومحذرا المخلصين في "تقرير الفساد": انتبهوا أيها الناس حتى لا تختلط الملائكة بالشياطين فيتحول فردوسكم المنشود إلى فردوس مفقود، وحتى لا يتحقق #السقوط.
(7)
أخي هشام
أعجبني مقتطف صغير من الكتاب الحادي عشر في "الفردوس المفقود" يقول: فحزن الرب في قلبه، عندما نظر إلى الأسفل، إذ رأى الأرض قد امتلأت بالعنف، وفسدت طريقة الناس في الحياة، وقبل أن يهلك الأرض ومن عليها، وجد رجلا بارّا واحدا يلتمس في وجه الله نعمة، فإذا بالرب الرحيم يرق ويلين، ويقرر ألا يسحق البشر، بل يضع لهم ميثاقا يؤمنهم من الطوفان، ويرسم لهم على صفحة السماء قوس أمل بديعا بألوان زاهية".
لم يكتمل المقتطف يا أخي هشام، وأرجو أن يلتفت الجميع لتكملته التي تقول: "لكن الله لن ينفذ "ميثاق الأمان والأمل" قبل أن يطهر الأرض والسماء بالنار، ويهيئ كل جديد بما يلائم عيشة الأبرار بعد تنحية أسباب #السقوط.
(8)
أخي هشام
أظنك على الطريق، وأظننا يجب أن نمضي لكي نطهر أرض الفساد بنار الحق والحب والحرية، حتى ينفذ الله للأبرار ميثاق الأمان ويرسم لنا قوس الأمل البديع على صفحة السماء.
دمت حرا يا "جنينة طهر" تتحدى الخرائب و#السقوط.
أضف تعليقك