محمد حامد عليوة
فمن فضل الله على بعض عباده أن رزقهم نعمة الدعوة إليه وجعلهم من العاملين لدينه، ومع هذا الفضل يحوز هؤلاء شرف الانتساب لدعوة الحق والسير على طريقها، وهي الطريق التي سار عليها السابقون من أعلام الهداية والرشاد.
فمن أعظم نسبًا وأحسن قولاً من الدعاة إلى الله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾ (فصلت)؟!
وبالإضافة لفضل الاصطفاء والاختيار، وشرف الانتساب والانتماء، فقد نال السابقون الأولون من الدعاة شرف السبق، حين ساروا على طريق الدعوة ومهَّدوه لمن بعدهم من الأجيال، بل وصبروا وثبتوا أمام محن الطريق الكثيرة والمتنوعة، فكان صبرهم وثباتهم هو الضريبة التي قدموها لمن بعدهم؛ حتى يستمر السير وتظل قافلة الدعوة على طريقها التي رسمها لهم الإمام الشهيد حسن البنا، مقتديًا بحبيبه المصطفى ومتبعًا لطريق الأصالة ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾ (يوسف).
وتتعاقب الأجيال على الطريق في حركتها وجهودها وبذلها، وتصبح الجهود السابقة الصادقة على الطريق بمثابة منارات هداية يقتدي بها اللاحقون، وخطوات على الطريق تحتاج من اللاحقين استكمالها، وإضافات ومكتسبات تحتاج من اللاحقين الحفاظ عليها وتنميتها والبناء عليها؛ خدمةً للدعوة وتحقيقًا لأهدافها.
السالكون ما بين سابق ولاحق
والسالكون لطريق الدعوة ما بين سابق ولاحق..
سابق.. أكرمه الله بالسبق والصدق والثبات على الطريق؛ فكان سببًا في دعوة الناس إلى الهدى والرشاد بثباته وصدقه وتضحياته، فمهَّد الطريق لمن تبعه، وقطع خطوات على الطريق لمن لحق بركب دعوته.
ولاحق.. أكرمه الله فكان ثمرةً من ثمار تضحية وصدق من سبق.
وإذا كان اللاحقون على الطريق نتيجة جهد من سبقهم؛ فقد وجب عليهم- اللاحقون- أن يصدقوا السير على الطريق ويثبتوا ويضحوا من أجل دعوتهم، ليقدموا القدوة لمن بعدهم، عندها ينالوا شرف السبق بالنسبة لمن يلحق بهم ويقتدي بأفعالهم الصادقة.
من فضائل السبق
أولاً: الأجر العظيم والثواب الجميل من الله تعالى.. فلا يتوقف أجرهم- أحياء أو منتقلين- عند حدود أعمالهم المخلصة الصادقة، ولكن يمتدُّ الأجر فتتضاعف أجورهم؛ نتيجة اقتداء من لحق بهم. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا" (صحيح مسلم)، وحديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" (صحيح مسلم).
وهل هناك خير أعظم من الدعوة إلى الله والسعي للتمكين لدين الله والتضحية في سبيل رفع لواء الله، وأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم لفعل المأمور وترك المحظور؟!
ثانيًا: الدعاء لهم بالمغفرة والرضوان.. فهم دائمًا بأفعالهم الطيبة وجهودهم المثمرة ينالون من بركات دعاء أتباعهم لهم بالرحمة والمغفرة والرضوان.. ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)﴾ (الحشر)، كما نذكرهم دائمًا عند الغروب بدعاء رابطة القلوب التي اجتمعت على محبة الله والتقت على طاعته.
ثالثًا: علوّ مكانتهم في قلوب إخوانهم.. إن من سبق وصدق، وتحقق فيهم وبهم صدقُ الولاء والانتماء لهذه الدعوة المباركة؛ لهم في قلوب إخوانهم وأتباعهم عظيم المنزلة، فرجال هذه الدعوة الصادقون، الذين آمنوا بسموِّ دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها، أو يموتوا في سبيلها؛ لا تنساهم الأجيال اللاحقة، فإن كانوا ممن انتقلوا إلى ربهم فسيرتهم ومواقفهم وجهادهم دائمًا أمام أعين إخوانهم، يتعلمون منها ويعلمونها إخوانهم، ويقتدون بها في حركتهم وعملهم.
وحال إخوانهم اللاحقين معهم وشعورهم نحوهم مثلما صوَّر أبو عمرو بن العلاء حين قال مشبِّهًا شعور من لحق نحو من سبق على الحق، فقال: "ما نحن فيمن مضى إلا كنبت في أصول نخل طوال".
وإن كانوا من الأحياء فهم في عيون وقلوب إخوانهم، يسعدون برؤياهم ويسعون للقائهم، ينهلون من خبرتهم ورصيد تجاربهم، فيتعلمون الثبات عمليًّا من ثباتهم، والتضحية من تضحياتهم، فرغم وهن صحتهم وكبر سنهم نرى فيهم البركة والحكمة والزاد على الطريق.
رابعًا: الذكر الحسن.. إن الحياة الحقيقية ما كانت في كنف الله وطاعته والعمل لدعوته والتضحية في سبيله، وفي السعي لقضاء حاجات عباده ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)﴾ (الأنعام)، فعباد الله الصالحون العاملون الذين ضحَّوا من أجل دعوتهم ودينهم تمتد حياتهم بعد موتهم؛ والسبب في امتداد حياة المجاهدين العاملين وحسن ذكرهم، هو ما قدموه مخلصين لله فيه، وما بذلوه يرجون من ورائه الأجر لا الذكر، فيحيي الله أعمالهم ويحسن ذكرهم وتظل آثارهم الطيبة تتحدث عنهم، وتبقى أخلاقهم وأعمالهم ومواقفهم يقتدي بها الناس، ويذكرونهم دائمًا بالخير.
أفهام تحتاج إلى تصحيح
ومن المشاعر التي تحتاج إلى ضبط، والأفهام التي يجب أن تصحَّح، هي أن نسمع صوتًا يقلل من شأن بعض من سبق، في عبارات مفادها أن الكبار من السابقين (وهنت أجسامهم عن الحركة الفاعلة- وانحنت ظهورهم وانحسرت طاقاتهم عن العطاء المثمر- وضعفت ذاكرتهم عن الخطب الرنانة والحديث المنمق- وأنهم بمعزل عن المستجدات الإدارية والمهارات الحديثة في التخطيط والتفكير والتواصل- ويجب أن يفسحوا الطريق للشباب الصاعد الواعد-....) وغيرها من العبارات الدالة على أفهام وأحاسيس تحتاج للضبط والمراجعة.
وهذا الضبط والمراجعة لهذه الأفهام لا يقلل من شأن توظيف طاقات الجميع في خدمة الدعوة، ولا يقلل من شأن أصحاب المهارات والقدرات، فالكل على طريق الدعوة يخدم ويؤدي دوره، والدعوة ملك لنا جميعًا، ونجاحها هو ثمرة جهود الجميع سابقين ولاحقين، شيوخًا وشبابًا، ولكن لأصحاب هذه الأفهام نقول:
إذا كانت أجساد إخواننا الكبار قد وهنت، فإنها وهنت عضويًّا ولم تهن نفسيًّا، ومع ضعفها من شدة البلاء ومرور الزمن، ظلت شامخة لم تنحنِ إلا لخالقها، ظلت ثابتةً لم تتبدل أو تتغير، حتى وصلتنا الدعوة من خلالهم أصيلة نقية.
إذا كانت ظهورهم قد انحنت فقد انحنت وهي ثابتة على الطريق ليظلَّ ممهدًا مستقيمًا لمن يأتي بعدهم.
إذا كان كلامهم قليلاً فالأجيال اللاحقة بكل ما تمتلك من مواهب وطاقات؛ من ثمار أعمالهم وتضحياتهم.
إذا كان كلامهم قليلاً، فمجالستهم ومعايشتهم وهم أوفياء لبيعتهم، ثابتين على طريق دعوتهم؛ فيه تربية عملية عميقة لمن جاء من بعدهم.
وإذا كان المرض قد أقعد أحدهم عن الحركة، فإن الدعوة تملأ عليهم حياتهم؛ لدرجة أن أحدهم قال لإخوانه وقد أقعده المرض: "لا تتركوني وحدي كثيرًا، احملوني إلى إخواني، فإني أتمنى أن ألقى الله وأنا بينهم"، فقد كانوا ولا زالوا رصيدًا زاخرًا لهذه الدعوة المباركة، ومعينًا فياضًا بالمعاني والمواقف العملية لشباب الدعوة وأجيالها المتعاقبة.
واجبنا نحو أهل السبق على طريق الدعوة
1- الدعاء لهم، أحياءً ومنتقلين، بالمغفرة والرضوان والثبات على الطريق.. عن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أنه سمع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم يقول: "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملَك: ولك بمثل" (رواه مُسلِمٌ).
2- اقتفاء آثارهم والاقتداء بأفعالهم الطيبة وتضحياتهم الغالية وحكمتهم البالغة.
3- معايشتهم ومجالستهم، وإن قل كلامهم فلسان الحال أبلغ من لسان المقال.
4- أن نكرِّمهم فننزلهم منزلتهم اللائقة بهم؛ لأنهم بثباتهم كنا، ومن بذلهم تزوَّدنا، وعلى الطريق التي مهَّدوها لنا بجهودهم ودمائهم سرنا، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم..." حديث حسن، وحديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منّا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا" (رواه الترمذي)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا, ويرحم صغيرنا, ويعرف لعالمنا حقه" (أخرجه أحمد في المسند، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع).
5- التأدب في الجلوس بين يديهم، بالاستماع لهم بإصغاء ومناقشتهم بأخوة وأدب ولطف، وخفض الصوت عند الحديث معهم، وعدم مقاطعتهم وهم يتحدثون.
6- الإفادة من تجاربهم وخبراتهم في الحياة وعلى الطريق، والتمعُّن والتفكُّر في مواقفهم في الدعوة والتربية.
وفي الختام.. هذا هو طريق الدعوة، تتعاقب عليه الأجيال؛ ليتبع كل جيل الجيل الذي سبقه، وليهيِّئ الأجواء للجيل الذي يأتي بعده، في تعاون وتكامل وتكاتف وتآزر، حتى يأتي وعد الله بالنصر والتمكين.. ﴿.... وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)﴾ (الإسراء).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر دعوتنا، وأن ينشر فكرتنا، وأن يرفع رايتنا، وأن يوفق قادتنا، وأن يبارك أخوَّتنا، وأن يغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليقك