يقول المستبد: كيف يطالبني الشعب بإنجازات دون سلطة مطلقة؟
دائما يصوّر المستبد لمن يحاول أن يستبد بهم أن أي قيود رقابية على سلطته تشكل عائقا أمام الإنجاز، وأن السلطة المطلقة التي ينشدها هي السبيل الوحيد للتنمية، وللأمن، وللرخاء، وللاستقرار الاجتماعي...!
حين جاء رئيس جمهورية الأمر الواقع في مصر بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو، السيد عبدالفتاح "سيسي"، طالب الناس بسلطات مطلقة، من أجل قمع الإرهاب المحتمل.. وبهذه السلطة المطلقة ارتكب - وما زال يرتكب - انتهاكات بطول البلاد وعرضها، وصلت إلى دكّ الناس بطائرات الأباتشي والإف 16.
حين ترشح بعد ذلك بشهور لرئاسة الجمهورية – مخلفا بكل وعوده – كان برنامجه هو أن يمنحه الناس السلطة المطلقة لكي ينجز إنجازات ليس لها مثيل، وكان يجاهر بأنه مرشح بلا برنامج، ووجد من كبارات النخب من ينوب عنه في ترويج هذا الهراء، وعلى رأس هؤلاء العقل الراعي للاستبداد في مصر الحديثة، السيد محمد حسنين هيكل، فأسبغ عليه لقب "مرشح الضرورة"، والضرورات تبيح المحظورات كما نعلم، وما أكثر المحظورات التي ارتكبها هذا السَّفَّاح.
***
بعد أن حصل على السلطة المطلقة؛ في الداخل قتل آلاف المصريين (وقليلا من سيئي الحظ من غير المصريين)، وسجن مئات الآلاف، وهجر آلافا من أهل سيناء، وأزال رفح (المصرية) من الوجود، وفعل في الجنيه المصري ما لم يفعله فيه مرور الزمان على مدى عشرات السنين، وضاعف الأسعار مرات ومرات، في الوقت الذي انهارت فيه الخدمات انهيارا لا مثيل له في تاريخ الدولة المصرية الحديثة والمعاصرة.
بسلطته المطلقة، بدأ مفاوضات سد النهضة مع إثيوبيا، وظل سنوات وسنوات يمنع الحديث في الأمر، ويكتم حقيقة ما يجري، ويتولى إعلامه تكذيب كل الشرفاء الذين يحذرون من كارثة قادمة، واليوم أصبحت الكارثة على الأبواب، فمصر مهددة بمجاعة حقيقية، وعطش مُهلك (بلا أي مبالغة).
وبسلطته المطلقة، باع جزءا عزيزا من تراب الوطن للمملكة السعودية ظاهريا (تيران وصنافير)، والحقيقة أنه قد باعها لإسرائيل. وبسلطته المطلقة، حبس خيرة شباب مصر الذين عارضوا هذه الخيانة العظمى العلنية. وطالب الجميع أيضا بإغلاق الموضوع وعدم الحديث فيه...!
بسلطته المطلقة، ارتكب - وما زال - كل ما يمكن أن يرتكبه الخونة والفشلة، وذلك واضح في كل مجالات الحياة. إن هذا المستبد يهدم الدولة بكل مؤسساتها بسلطته المطلقة.
***
سيقول بعض قليلي الخبرة الذين لم يقرأوا التاريخ إن السلطة المطلقة تُنجز في بعض الأمور، وكانوا إلى وقت قريب يحاولون إثبات ذلك بإنجازين، الإنجاز الأول: ما يسمى بقناة السويس الجديدة، والثاني شبكة الطرق الجديدة.
أما في مسألة القناة المزعومة، فقد أجمعت التقارير الاقتصادية على أنها توسعة ليس فيها أي قيمة مضافة لقناة السويس، وفي الوقت نفسه تكلفتها كبيرة، واستهلكت رصيدا ثمينا من العملة الصعبة.. كل ذلك بلا خطة ولا هدف.
وبعد افتتاح القناة المزعومة، جاءت الأرقام بالخبر اليقين، فمدخولات قناة السويس ما زالت في انخفاض مستمر، ولا أحد يدري على وجه الدقة ما هو مستقبل قناة السويس في ظل وجود بدائل أخرى أمام جزء كبير من الملاحة العالمية.
لقد تأخرت الدولة المصرية - بفضل الاستبداد - في تطوير قناة السويس، ما نتج عنه أن القناة أصبحت لا تملك أي ميزة تجذب الملاحة الدولية. إنها مجرد ممر، يقف عليه عسكري صفيق يقبض ثمن المرور بكل صلف، وبتعقيدات إدارية، وبفساد يزكم الأنوف، وهو لا يكاد يقدم أي خدمات تذكر تجذب العابرين.
لذلك... لا يمر من القناة إلا المضطرون، ولا تملك قناة السويس حاليا إلا تخفيض رسوم المرور في ظل وجود بدائل أخرى.
أما شبكة الطرق التي صدعنا النظام بها، هذه الشبكة الحديثة (المزعومة) من الطرق والأنفاق والجسور، حين تساقط مطر (شبه كثيف) انهارت، واتضحت حقيقة الإنجاز!
هذه الشبكة من الطرق لا لزوم لها! الأمم المنتجة هي التي تحتاج هذه الطرق، لكي تنقل منتجاتها إلى المطارات والموانئ ثم إلى الأسواق العالمية، ومصر بلد لا يكاد ينتج شيئا.
الأمم العاملة هي التي تحتاج هذه الطرق، لكي ينتقل الناس إلى أعمالهم بسهولة ويسر، ولكي يحافظوا على أوقاتهم، فيصبح الوقت للعمل والإنتاج، ولا يضيع في الطرقات.
ومصر بلد البطالة (بكل أنواعها الحقيقية والمقنعة)... ولا أحد يعلم على وجه الدقة كم عدد العاطلين من الشباب والشابات في مصر، ولكن المؤكد أن نسبة العاطلين كارثية، والمؤكد أن هذه النسبة ما زالت تزداد.
لماذا إذن قررت الدولة إنشاء هذه الشبكة؟
للتّربُّحِ لا أكثر!
هذه الطرق استفاد منها من هم في السلطة، وأشياعهم، إنه "بيزنيس" بمئات المليارات، وهي لقمة سائغة بالإسناد المباشر، وليتهم إذ أنشأوها كانت بمواصفات قياسية، بل كانت أنموذجا للغش والسرقة وانعدام الضمير والرقابة، فانهارت الشبكة المزعومة مع تساقط الأمطار الأسبوع الماضي (نيسان/ إبريل 2018).
الحقيقة المرة أن المستبد يطلب السلطة المطلقة لكي يُنجز، ولكنه دائما يفشل ويرتكب الجرائم، ولكن كيف يمكن أن تحاسبه بعد أن منحته السلطة المطلقة؟
هذه هي معضلتنا في الشرق... نحارب أنظمة بسلطة مطلقة، وتكون خياراتنا دائما صفرية، إما نحن... أو هم، والتاريخ يقول إن البقاء للشعوب.
أخيرا.. رحل عن عالمنا ضمير وقلم... رحل وائل أبو هلال!
عرفت الفقيد منذ عدة سنوات، وكنت أرى فيه عقلا متفتحا، وقلبا حنونا، وضميرا مستيقظا، وقلما مفوّها.
كانت فلسطين الحقيقية المقاوِمة تتجسد أمامي في هيئة إنسان!
التقيته في إسطنبول منذ عدة أسابيع، وأغدق عليّ من فضله في جلسة امتدت عدة ساعات، وما أدركت أنه اللقاء الأخير.
عزائي لأسرته، ولأحبابه، ولقرائه... رحمه الله رحمة واسعة.
أضف تعليقك