بقلم: عامر شماخ
هذا عزاء لكل عابد خاف ذهاب أجره، ورسالة تطمين لكل طائع أو منفق أو مجاهد: أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وما يفعلوا من خير فلن يكفروه.
لقد خشى صحابة النبى- صلى الله عليه وسلم- بعد تحويل القبلة ألا يُكتب لهم أجر صلاتهم التى امتدت نحو ستة عشر شهرًا جهة بيت المقدس؛ فكان القانون الإلهى الخالد (وما كان الله ليضيع إيمانكم..)، والذى زرع اليقين فى نفوسهم؛ مؤكدًا أن الأمر كله لله، فله المشرق والمغرب، وله الأرض وما عليها، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم.
وهذا درس لمن لم يُجب دعاؤه على التعقيب؛ فإن يد الله تعمل فى الخفاء، وربما دفع الدعاء ما يفوقه من البلاء، ودرس لليائسين القانطين ممن حسبوا ألا يكون مخرج وفرج، ودرس للمتعجلين الذين لا يوقنون؛ فإن فى التأخير ربحًا وفائدة، وقد هلك من ظنوا أن الله غافل عما يعمل الظالمون؛ فكما أملى- سبحانه- لفرعون الأكبر ليغتر بحلمه حتى إذا أخذه لم يفلته؛ فكذلك يملى للفراعنة الصغار استدراجًا لكيده المتين وعذابه الأليم.
ولن يخزى الله عبدًا طائعًا منيبًا، فإنما هى أقدار ونواميس؛ وانظر كيف جبر الله خاطر المعصوم -صلى الله عليه وسلم- بعد حين؛ بإقرار عينه وصلاح باله عندما أعطاه ما أحبه، قبلة أبيه إبراهيم، وبيت العرب، ووجهة الحرم وقد لقنه دروسًا فى الرد على طوائف المعاندين من اليهود والمشركين والمنافقين؛ من وصفهم بالسفهاء، والتأكيد على ظلمهم ومخالفتهم فطرة الله التى فطر الناس عليها؛ باتباعهم أهواءهم، وإصرارهم على ألا تكون قبلته قبلتهم، رغم معرفتهم الحق كما يعرفون أبناءهم؛ فهم قوم بهت، يكتمون الحق وهم يعلمون.
إن من أبرز صفات المؤمنين الصادقين: التسليم لله، وكمال الانقياد له- وإن كان فى النفس شىء- فعمر يقبل الحجر الأسود ويقول: أعرف أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. والنبى- صلى الله عليه وسلم- يصلى إلى قبلة اليهود متململا، لكنه التسليم لله وعدم الشكوى والضجر، والله الذى يعلم السر وأخفى يجبر المنكسر، ويقر أعين عباده بتحقيق ما يحبون؛ فتأتى الجائزة فى وقت عجيب، أثناء الصلاة نفسها، موضع التململ من تلك القبلة، كان يمكن أن يكون ذلك الأمر وحيًا يبلغه جبريل إياه فى حجرة من حجراته كما كان يفعل، لكنه -سبحانه- يعالج نفس حبيبه حال تململها ليكون العلاج أنجع، والسعادة أبلغ، والوصال على حال لم تُسبق.
وهذا المعلِّم الأعظم هو من صنع هذه الصفة -التسليم- فى أتباعه، على عينه، وكان اختبار السماء إثباتًا لنجاحه فى تلك الصنعة. عن ابن عمر -رضى الله عنه- قال: «بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح؛ إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام؛ فاستداروا». وهذا قمة الخضوع والإذعان لمالك الأرض والسماء. ومن يفعل هذا لا يهتم -من دون شك- بما قاله الخصوم فى شأن التحول وغيره من شئون الدعوة. لم يلتفتوا لقول المشركين إنهم -أى المسلمين- عادوا لقبلة الآباء وسيعودون قريبًا إلى دينهم، ولم يلتفتوا لقول اليهود: إنهم خالفوا قبلة الأنبياء جميعًا، ولم يلتفتوا لقول المنافقين: إنهم لا يدرون أين يتوجهون. وهذا هو التميز بعينه، وسواء الشخصية، ونضج البصيرة؛ فهم الأحياء الذين جعل الله لهم نورًا يمشون به فى الناس، يميزون الصالح من الطالح، والطيب من الخبيث، وليسوا كمن أقاموا فى الظلمات لا يستطيعون النجاة منها..
وما أكثر دروس تحويل القبلة هذه الأيام؛ فقد كثر الغمز واللمز، وصار العداء حادًا سافرًا، وشُنت ضدنا الحروب، وزاد التشكيك. وفى الداخل وقعت الهزائم النفسية، وقنط البعض من رحمة الله؛ فقعدوا، وأصابتهم الأمراض والعلل.. والدواء فى بضع آيات من سورة البقرة، تنبئ عما نحن فيه، وكيف الخروج منه، والشُقة ليست بعيدة كما يراها المحبطون؛ فإنه ليس بين الأرض والسماء حاجز ولا رقيب، وليس على القلوب حارس يمنع ما تبثه إلى رب الأرض والسموات.. اللهم علمك بحالنا يغنى عن سؤالنا، اللهم رحمتك نرجو، اللهم تول أمرنا، وقو ضعفنا، ولا تخيب فيك رجاءنا.. يا رب المستضعفين، ويا أرحم الراحمين.
أضف تعليقك