• الصلاة القادمة

    العشاء 17:29

 
news Image
منذ ثانية واحدة

إن منهج القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم استطاعا تخريج جيل عظيم يدرك سر السعادة في تحمل المسئولية عن قناعة واختيار حتى أضحى الكنز المخبوء المدخر عنده هو العطاء والبذل والإنفاق حتى أصبحت التضحية والموت والاستشهاد هي عين الحياة .

وهناك ارتباط وثيق بين وضوح الفكرة والإيمان بها والعمل لها وبين مقدار التضحية فهي تزداد بزيادة هذه العوامل السابقة التي تجعل الباعث قوى وبالتالي فإن التضحية من أجله تعظيم والحب في تقديم هذه التضحية يدفع للتسابق والاستهانة بالمضحى به { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } التوبة 24 ] .

ولذلك فإن أفراد المجتمع المسلم الأول كان الواحد منهم يرضى ويسعد بتحمله للمسئولية في أدنى صورها كإماطة الأذى عن طريق وفي أعلى صورها كبذل الدم والنفس استشهادا في سبيل إعلاء كلمة الله التي تنفع الناس وتسعدهم وبين أدنى صور المسئولية وأعلاها مراتب شتى من المسئولية ففي بذل النفس كان شعورهم الحقيقي الرغبة الشديدة في الاستشهاد إقتداء عمليا برغبة النبي صلى الله عليه وسلم التي عبر عنها بقوله : (( .... لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل )) .

والشهادة هي ذروة التضحية حفاظا على المجتمع ونمائه وازدهاره في ظل المبادئ الإسلامية وبذل النفس طواعية يعنى من ناحية أخرى ارتقاء الأفراد إلى أعلى معدلات التنمية الاجتماعية تعاونا وإيثار وتفانيا ويقتضي هذا النص الشريف الرغبة الشديدة في أن تتاح الفرصة للمؤمن كي يتحمل المسئولية في أرفع مستوياتها عدة مرات يجود خلالها بنفسه ودمه ولا شك أن هذه الرغبة القوية في احتماله المسئولية إنما كانت على هذا النحو بسبب نجاح الإسلام في إبراز جزائها العظيم وربطه بالمسئولية بمثل قوله تعالى :{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } آل عمران 169] وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم ((إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة ))وفي رواية مسلم ((أرواحهم في أجواف طير خضر لها قناديل معلقة بالوشى تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل )) .

وأما التضحية بالمال فقد كان شعارهم قوله صلى الله عليه وسلم :((ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا لعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه )) فهذا الحديث يستنهض في المسلم ثلاث ملكات من ملكات المسئولية حتى تصل بها إلى درجة من الكفاءة العليا القادرة على رعاية أدق الخيوط الفاصلة بين مخاطر النقص في المال مع استدامة النفقة ومخاطر الضعف مع استمرار العفو ومخاطر الهوان مع الحفاظ على التواضع وبذلك يتحمل المسلم المسئولية دون وجل فلا خوف من الإفلاس عند النفقة ولا رهبة من الضعف والمذلة عند العفو والتواضع ولا يمكن أن يضحي المسلم بماله وينفق وهو لا يخشى من ذي العرش إقلالا إلا إذا أطاع الله ورسوله في كيفية إدارة المال إدارة إسلامية واحترام الأسباب التي خلقها الله لتصل بالناس إلى مسبباتها ولقد بين القرآن هذه المسئولية :

أولا : قوله تعالى : { آلمص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أوهم قاتلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين } الأعراف 1-6 ].

ثانيا: قوله تعالى :{ فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } الزخرف : 43، 44 ].

ولما كانت المسئولية شاملة للناس كافة فقد أورد الإمام ابن كثير في تفسيرها الحديث النبوي الذي رواه ابن عمر فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام يسأل عن رعيته والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل ن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده ثم قرأ { فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين } الأعراف :6 ] ))

فالشعور بالمسئولية نتاج الباعث الداخلي الذي أحدثته عقيدة التوحيد في قلوب أتباعها فرفوا رسالتهم فصغرت الدنيا في أعينهم وتشوقوا إلى ملاقاة ربهم وهم يقولون { وعجلت إليك رب لترضى } طه : 84 ].

التضحية أنواع وألوان
نحن أمة لها يقين تعيش عليه وغاية تعمل للوصول إليها وتضحي من أجلها وحاضر يجب أن يكون امتدادا لماضي تليد في قيمه ومقوماتها فأمر هذه الأمة لن يصلح في حاضرها إلا بما صلح به في ماضيها المشرق الكريم من :

-استمساك بعروة الإيمان الوثقى.
- وتدرع بدرع اليقين الحصين.
- واعتصام بحبل الله القوى المتين.
-واجتماع على روح الجهاد حتى الاستشهاد، و التضحية بالغالي والنفيس.
- والتقاء على بيعة لله صادقة وفية وتباركها يد الله ويؤيدها بعونه وهداه { وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } آل عمران 126 { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز } الحج 4.
- مع إدراك بصير بهذه الحقائق وشعور عميق بحاجتنا إليه فتتلقاها الهمم العالية { وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم } البقرة 143 ، فتضحي بالعزيز و النفيس لديها حتى ولو كانت الروح التي بين الجنوب من أجل حق يؤمن به صاحب الهمة العالية وعقيدة يعتنقها ويخضع لها مع علمه بهول الأخطار التي يتعرض لها في سبيل ذلك.
ولا يدفع إلى التضحية الصادقة إلا إيمان عميق ويقين وطيد بعقيدة دينية أو نزعة وطنية، أو غيرة على حق أو حرمة أو حرية، و المضحى الأصيل لا يندفع إلى عمله البطولى لغرض أو عرض، ولا لمتعة أو منفعة، ولا لشهرة أو ذكر.

ولا يفوتنا أن نقول: إن الفداء و التضحية يستعملان بمعنى واحد ( فالضحية أو الأضحية في الشرع هي الذبيحة التي يقدمها الإنسان لمقصد ديني ، ولعل استعمال كلمة ( التضحية ) بمعنى الفداء كان تشبيه الإنسان الذي يقدم روحه فداء لعقيدته ، بمن يذبح هذه الروح ويجعلها ضحية وفداء ، وعلى هذا جاء قول الله تعالى في شأن الذبيح إسماعيل { وفديناه بذبح عظيم } الصافات 107 أي جعلنا هذا المذبوح فداء له وخلصناه به من الذبح .

ولا ينبغي أن نفهم من هذا أن العمل الفدائي و الذي يتحقق به التضحية لا يتحقق إلا بالموت، لأن التضحية ألوان وأنواع فالجندي الذي يقذف بنفسه في أتون الحرب متوقعاً الموت أكثر من توقعه الحياة إنسان مضحى، سواء أنال الشهادة أم نجا وعاد مترقباً جوالة فدائية أخرى قادمة، و الرجل الذي يبذل ماله في سبيل حق أو خير، وهو لا يدرى من أين ينفق بعد ذلك وهو إنسان مضحى، وكذلك العالم الذي يبحث بين مخابيرة ومناظيره وأدوات بحثه لمعرفة دواء أو كشف ميكروب دون أن يبالي بالأخطار التي يتعرض لها رجل مضحى، و الذي يقذف بنفسه لينقذ غيره وهو غير متأكد في هذا الموقف من سلامته هو رجل مضحى.

و الذي يجهر بكلمة الحق حين تخرس الألسنة أمام طغيان أو تجبر، دون أن يبالي العاقبة، قاصد الخير والإصلاح رجل مضحى، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أضف تعليقك