الأستاذ جمعة أمين
الرسول صلى الله عليه وسلم أول من ضحى بوقته كله وجهده وأهله وعشيرته ووطنه وماله وعصمه المولى سبحانه وتعالى من الناس فقال { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } المائدة 67 بل لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التضحية من أجل الدين أروع الأمثال ، ولقد كان من تضحيته صلى الله عليه وسلم أن تحمل الشدائد واحتمل صنوف الأذى - وكيف لا وهو القدوة والأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر .
ومن صور إيذاء المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكره ابن اسحق في السيرة النبوية قال : وفيمن نصب لعداوته منهم : أبو لهب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب ، وإنما سماها الله بهذا الاسم لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يمر ، فأنزل الله تعالى { تبت يدا أبى لهب وتبّ ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب ، وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد } سورة المسد .
أما قصة زوجها أبى لهب فكلنا يعرفها ، فعداؤه للرسول صلى الله عليه وسلم معروف لكل من قرأ سيرته صلى الله عليه وسلم .
ومنهم أمية بن خلف بن وهب الذي كان يهمز الرسول صلى الله عليه وسلم ويلمزه أمام الناس ونزل فيه { ويل لكل همزة لمزة } الهمزة 1 ، فضلاً عن النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبى معيط وغيرهم الكثير .
- نماذج من الأذى :
وفيما يلي نماذج من أنواع الأذى التي تعرض لها الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه علماء الحديث الشريف :
- روى الإمام أحمد بسنده عن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد أوذيت في الله ، وما يؤذى أحد ، وأخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علىَّ ثلاثون ليلة من بين يوم وليلة ومالي ولبلال رضى الله عنه ما يأكله ذو كبد إلا ما يوارى إبط بلال ) .
وأخرجه ابن ماجة وابن حبان و الترمذى .
- وأخرج الطبرانى في الكبير بسنده عن الحارث بن الحارث قال : قلت لأبى : ما هذه الجماعة ؟ قال : هؤلاء القوم الذين اجتمعوا على صابئ لهم قال : فنزلنا فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل والإيمان وهم يردون عليه ويؤذونه - وفي رواية فمنهم من تفل في وجهه ومنهم من حثا عليه التراب ومنهم من سبه - حتى انتصف النهار وانصدع الناس عنه ، أقبلت امرأة قد بدا نحرها تحمل قدحاً ومنديلاً فتناوله منها فشرب ، وتوضأ ثم رفع رأسه فقال : يا بنيّه خمري نحرك ولا تخافي على أبيك - وفي رواية ولا تخشى على أبيك - غيلة ولا مذلة ، فقلت من هذه ؟ قال زينب بنت رسول الله صلى .
-وروى ابن أبى شيبة بسنده عن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال : ما رأيت قريشا أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوما ائتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى عند المقام فقام إليه عقبة بن أبى مقتول فأقبل أبو بكر رضى الله عنه يشتد حتى أخذ بضبعى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه وهو يقول :{ أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله } غافر 28 . ثم انصرفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فلما قضى صلاته مرّ بهم وهم جلوس في ظل الكعبة فقال يا معشر قريش :أما والذي نفس محمد بيده : ما أرسلت إليكم إلا بالذبح وأشار بيده إلى حلقه فقال له أبو جهل : ما كنت جهولا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أنت منهم )) .
وروى البزار بسنده عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وأبو جهل بن هشام وشيبة وعتبة ابنا ربيعة وعقبة بن أبى معيط وأمية بن خلف ورجلان آخران كانوا سبعة وهم في الحجر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فلما سجد أطال السجود فقال أبو جهل أيكم يأتي جزور بنى فلان فيأتينا بفرثها فنكفوه على محمد ؟ فانطلق أشقاهم : عقبة بن أبى معيط فأتى به فألقاه على كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد قال ابن مسعود : وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم وليس عندي منعة تمنعني فأنا أذهب إذ سمعت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت حتى ألقت ذلك عن عاتقه ثم استقبلت قريشا تسبهم فلم يرجعوا إليها شيئا ورفع رسول الله صلى الله عليه رأسه كما كان يرفع عند تمام السجود فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال :(( اللهم عليك بقريش ثلاثا عليك بعتبة وعقبة وأبى جهل وشيبة )) ثم خرج من المسجد فلقيه أبو البخترى بسوط يتخصر به فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنكر وجهه فقال : مالك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خل عنى )) قال : علم الله لا أخلى عنك أو تخبرني ما شأنك ؟ فلقد أصابك شئ فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير مخل عنه أخبره فقال (( إن أبا جهل أمر فطرح على ّ فرث فقال أبو البخترى : هلم إلى المسجد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو البخترى فدخلا المسجد ثم أقبل أبو البخترى إلى أبى جهل فقال : يا أبا الحكم : أنت الذي أمرت بمحمد فطرح عليه الفرث ؟ قال : نعم قال فرفع السوط فضرب به رأسه قال : فثار الرجال بعضها إلى بعض قال : وصاح أبو جهل : ويحكم هي له إنما أراد محمد أن يلقى بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه )) .
- وأخرج الطبرانى في الكبير بسنده (( عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق حليف بنى زهرة مرسلا أن أبا جهل اعترض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفا فآذاه وكان حمزة رضى الله عنه صاحب قنص وصيد وكان يومئذ في قنصه فلما رجع قالت له امرأته وكانت قد رأت ما صنع أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا عمارة لو رأيت ما صنع تعنى أبا جهل بابن أخيك فغضب حمزة رضى الله عنه ومضى كما هو قبل أن يدخل بيته وهو معلق قوسه في عنقه حتى دخل المسجد فوجد أبا جهل في مجلس من مجالس قريش فلم يكلمه حتى علا رأسه بقوسه فشجه فقام رجال من قريش إلى حمزة يمسكونه عنه فقال حمزة : ديني دين محمد صلى الله عليه وسلم أشهد أنه رسول الله فوا الله لا أنثنى عن ذلك فامنعوني من ذلك إن كنتم صادقين فلما أسلم حمزة رضى الله عنه عز به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وثبت لهم بعض أمرهم وهابت قريش وعلموا أن حمزة رضى الله عنه سيمنعه )) .
- وأخرج البخاري بسنده عن عروة رضى الله عنه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حديثه أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟
قال : (( لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبرائيل عليه السلام فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم على ثم قال : يا محمد فقال ذلك فما شئت ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا )) أخرجه مسلم والنسائي .
- وأخرج أبو نعيم نسنده في دلائل النبوة عن عروة بن الزبير رضى الله عنه قال : مات أبو طالب وازداد من البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة فعمد إلى ثقيف يرجو أن يؤووه وينصروه فوجد ثلاثة نفر منهم سادة ثقيف وهم إخوة عبد يا ليل بن عمرو وخبيب ابن عمرو ومسعود بن عمرو فغرض عليهم نفسه وشكا إليهم البلاء وما انتهك قومه منه .
فقال أحدهم : أنا أسوق ثياب الكعبة إن الله بعثك بشيء قط .
وقال الآخر : أعجز الله أن يرسل غيرك ؟
فأفشوا ذلك في ثقيف أي الذي قال لهم صلى الله عليه وسلم واجتمعوا يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدوا له صفين على طريقه فأخذوا بأيديهم الحجارة فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلا رضخوها بالحجارة وهم في ذلك يستهزئون ويسجرون .
فلما خاص من صفيهم وقدماه تسيلان الدماء عمد إلى حائط من كرومهم فأتى ظل حبلة أي شجرة عنب من الكروم فجلس في أصلها مكروبا موجعا تسيل قدماه الدماء فإذا في الكروم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فلما أبصرهما كره أن يأتيهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله وبه الذي به فأرسلا إليه غلامهما عداسا بعنب وعداس نصراني من أهل نينوى فلما أتاه وضع العنب بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بسم الله .
فتعجب عداس .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أي أرض أنت يا عداس ))ظ
قال : أنا من أهل نينوى .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( من أهل مدين الرجل الصالح يونس بن متى ))
فقال له عداس : وما يدريك من يونس بن متى ؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس ما عرف وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدا يبلغه رسالات الله تعالى .
قال : يا رسول الله أخبرني خبر يونس بن متى .
فلما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس ابن متى ما أوحى إليه من شأنه خر ساجدا للرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعل يقبل قدميه وهما تسيلان الدماء .
فلما أبصر عتبة وأخوه شيبة ما فعل غلامهما سكنا فلما أتاهما قالا له :
ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلت هذا بأحد منا ؟
قال : هذا رجل صالح حدثني عن أشياء عرفتها من شأن رسول بعثه الله تعالى إلينا يدعى يونس بن متى فأخبرني أنه رسول الله .
فضحكا وقال : لا يفتنك عن نصرانيتك إنه رجل يخدع .
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة .
وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الموقف :(( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربى إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمنى أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علىّ سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك )) .
- وأخرج البخاري ومسلم والترميذى بأسانيدهم عن أنس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه فجعل يسلب الدم عن وجهه ويقول : (( كيف يصلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله ؟ )) .
فنزل قول الله تعالى { ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } آل عمران 128 ] فكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة لأصحابه فهذا على بن أبى طالب رضى الله عنه يقف من وراء الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى من دروس التضحية والفداء فيعيها ويهتدي بنورها وعلى هو الذي كان يقول : ((والله ما أبالي أدخلت على الموت أو خرج الموت إلى )) وكان يقول : ((والذي نفس ابن أبى طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون على من ميتة الفراش في غير طاعة الله )) وهو القائل (( ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما ومضينا على اللقم أي الطريق المعتدل وصبرا على مضض الألم وحدا في جهاد العدو ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما أيهما يسقى صاحبه كأس المنون فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا فلما رأى صدقنا أنزل بعدونا الكبت أي الذل وأنزل علينا النصر حتى استقر الإسلام ملقيا جرانه ومتبوئا أوطانه .
والموقف البطولي الذي وقفه الإمام على رضى الله عنه ليلة الهجرة مشهور لا يحتاج إلى إطالة في عرضه حيث نام مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه هدف للمتآمرين من المشركين ففدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وحياته وإن يكن الله تعالى قد كتب له النجاة والسلامة .
وقد قال بعض المفسرين أن قول الله تعالى في سورة البقرة { ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد } نزل في شأن على رضى الله عنه حين نام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة .
وتمضى المسيرة فنجد فريقا من المؤمنين يتألقون في طليعتها مدافعين ومضحين من أجل دعوتهم أولئك هم شهداء غزوة بدر الكبرى وهي الغزوة التي قال في أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم )) ولقد كان أهل بدر قدوة رائعة في الإقدام على التضحية والفداء وكان شهداؤهم أروه وأسمى .
والرسول صلى الله عليه وسلم هو المثل الأكمل في الأسوة الحسنة في هذه المعاني بل هو المعلم والمربى أصحابه على الفداء والتضحية ولقد رأيناه ليلة الهجرة يقدم على الرحلة الخطيرة المحفوفة بالأهوال والأخطار بعد أن تآمرت جموع الشرك على البطش به حتى قال القرآن الكريم في سورة الأنفال : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } .
وكذلك رأيناه في أحرج موقف وهو داخل الغر والكفار على بابه وصاحبه أبو بكر رضى الله عنه يقول له مشفقا : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موطئ قدمه لرآنا فلا يضطرب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يخاف بل يطمئن أبا بكر في شموخ يقيني قائلا : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا .
هذا غيض من فيض كريم لكننا نراه صلى الله عليه وسلم وهو يضرب القدوة الطيبة والأسوة الحسنة في مواقفه الكريمة العالية والغالية وهو يوجه صحابته رضوان الله عليهم إلى مواقف التضحية والفداء عليه من ربه والعباد أفضل صلاة وأتم سلام حتى صار شعار التضحية عندهم كأنه ترنيمة يطيب لها أذن السامع وكل منهم يقول : فداك أبى وأمي يا رسول الله .
ذلك كله لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان القدوة في هذه التضحيات فلقد ضحى بكل شئ سواء أكانت التضحية في المجال المادي أو الأدبي أو المعنوي ضحى بالوقت والجهد والمال ومع هذه التضحيات كان الصبر الجميل .
أضف تعليقك