بقلم: قطب العربي
لا تترك أبواق الكراهية والتحريض والانتقام في مصر فرصة إلا اغتنمتها لتطلق حممها في وجه كل من يخالفها ويخالف أسيادها وكفلائها، تكرر هذا الفعل القاتل كثيرا منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 وحتى الآن، وأصبح أحد لوازم هذا الحكم الذي لم ولن يستطيع العيش في ظل حياة طبيعية وعلاقات سوية بين المصريين، ولذا فقد حرص منذ لحظاته الأولى على تقسيم الشعب المصري إلى قسمين "انتوا شعب وإحنا شعب".. و"لكم رب ولنا رب"، ودأب عبد الفتاح السيسي على مخاطبة الشعب بقوله: "إنتوا يا مصريين"، مستبعدا كل مناوئيه ومعارضيه من هذا الوصف، تاركا لهم توصيفات الخيانة والإرهاب والعمالة.. إلخ.
خلال الأيام الماضية، انطلقت موجة جديدة من "المكارثية" (McCarthyism) عبر توجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة، دون أدلة لآلاف، بل ملايين، المصريين المناهضين للانقلاب، سواء كانوا ينتمون لجماعة الإخوان أو غيرها من الجماعات والحركات والقوى السياسية.. تمثلت الموجة الجديدة في هجوم إعلامي ضارٍ؛ عقب أفكار المصالحة التي طرحها الإعلامي عماد الدين أديب والسياسي كمال الهلباوي، واستخدم هذا الهجوم الإعلامي كل مفردات التخوين والتكفير الوطني وحتى الديني بحق هذا القسم من المصريين، تبريرا لعدم قبول أي محاولة للتصالح معهم، وهو ما يعكس خوفا حقيقيا لدى هذه الأبواق الإعلامية ومن يقفون خلفها؛ من عودة الوئام المجتمعي الذي يعتبرونه خطرا كبيرا عليهم وعلى السلطة التي ترعاهم.
من مظاهر حملة المكارثية الجديدة أيضا إصرار السلطة على وضع الآلاف فيما تصفه بقوائم الإرهاب، دونما تحقيق مع هؤلاء المدرجين، ودونما منحهم أي فرصة للدفاع عن أنفسهم، ويترتب على هذا التصنيف التحفظ على ممتلكات المدرجين الثابتة والمنقولة، ومنع المدرجين من السفر، حتى لو كان لضرورات عاجلة مثل العلاج أو حتى الحج والعمرة.. إلخ، وكذا الحرمان من الوظيفة الحكومية.
لم تكتف السلطة بسلسلة من القرارات والسياسات التي نفذتها بعد أيام قليلة من انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، شملت التحفظ على ممتلكات عدد من الأفراد، تلتها بتشكيل لجنة إدارية للتحفظ على أموال الإخوان مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2013، ثم توسيع صلاحيات هذه اللجنة بقرار من رئيس الوزراء في حزيران/ يونيو 2014، وقد تحفظت هذه اللجنة على ما يجاوز الخمسين مليار جنيه حسب تصريحات مسؤوليها، وضمت قائمة التحفظ 1166 جمعية، بخلاف آلاف المواطنين. ونظرا لصدور العديد من أحكام القضاء الإداري بإلغاء قرارات هذه اللجنة، فقد أصدرت السلطة القانون رقم 8 لسنة 2015 بشأن تنظيم ما وصفته بقوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، والذي منح النيابة العامة حق إصدار هذه القوائم وتقديمها لإحدى دوائر محكمة الجنايات. ونظرا للطعون المتكررة على القوائم التي صدرت من خلال هذا القانون، وأشهرها القائمة التي تضم 1500 معارض؛ على رأسهم الرياضي الكابتن محمد أبوتريكة، والتي كانت في طريقها للإلغاء بعد توصية هيئة مفوضي محكمة النقض بذلك.. عمدت السلطات إلى إصدار تشريع جديد، مستغلة هيمنتها على البرلمان الذي أصدر وبشكل سريع القانون رقم 22 لسنة 2018 يوم 22 نيسان/ أبريل الماضي. وقد أضاف مزيدا من التشدد عن القرارات والتشريعات السابقة، وأنشأ لجنة ذات طابع قضائي للتصنيف والإدراج، ومنع الطعن على قرارات هذه اللجنة امام القضاء الإداري أو محكمة النقض، بل أوكله لمحكمة الأمور المستعجلة التي توصف بأنها محكمة "ملاكي للنظام"، أي أنها تصدر الأحكام التي يريدها النظام عادة، فقد أصدرت من قبل حكما بتصنيف حماس كحركة إرهابية، ثم عادت لتحكم حكما مغايرا مواكبة لتغير الظرف السياسي. ولم يقتصر هذا القانون الجديد بالتحفظ على الأموال والممتلكات، ولكنه يسمح بالتصرف نهائيا في تلك الأموال والممتلكات، ونقل ملكيتها للخزانة العامة للدولة.
عمليات التحفظ ومصادرة الأموال لمناهضي النظام هي صورة مكررة لما حدث في الستينيات على يد الحكم العسكري أيضا، من مصادرات وفرض حراسات، شملت بشكل أساسي كبار الملاك الذين كان غالبيتهم ينتمون للقوى الليبرالية قبل انقلاب تموز/ يوليو 1952، وهي تشبه أيضا المصادرات التي حدثت في الولايات المتحدة في الستينات في ظل موجة المكارثية ضد الشيوعيين أو من يتهمون بتلك التهمة. وكما أن هوجة المكارثية في الولايات المتحدة لم تقتصر على الشيوعيين الحقيقيين، بل شملت الكثيرين غيرهم، حيث كان الباب مفتوحا لاتهام أي شخص بالشيوعية، ليتم فصله من عمله ومصادرة أمواله.. وهو ما يحدث في مصر حاليا، حيث لا تقتصر عمليات المصادرة على الإخوان أو الإسلاميين أو المناهضين للانقلاب، بل تتسع لآخرين لم يعرف عنهم المعارضة، ومنهم رجال أعمال كانوا أعضاء بالحزب الوطني قبل ثورة يناير، وهذا ما يفسر سر مشاركة كبار رموز دولة مبارك (مثل فتحي سرور، رئيس البرلمان الأسبق، وفريد الديب، محامي الرئيس المخلوع حسني مبارك، وآمال عثمان، وزيرة الشؤون الاجتماعية السابقة) في جلسات الدفاع عن بعض المدرجين، ولعل ذلك هو ما دفع السلطة للمسارعة بإعادة إصدار قائمة الإرهاب التي تشمل 1529 مواطنا يتقدمهم الكابتن أبو تريكة، وفقا للقانون الجديد، ما يعني إجراءات دفاع جديدة تستنزف طاقة وجهد ومال المدرجين.
ورغم أن قانون الكيانات الإرهابية يتضمن فصل الموظف الحكومي من وظيفته إذا تم إدراجه في إحدى قوائم الإرهاب، أو صدر حكم بالإدانة من إحدى دوائر الإرهاب، إلا أن البرلمان المصري يستعد لإصدار تشريع جديد للتوسع في عمليات فصل المعارضين السياسيين عموما، بينما تجري السلطات المصرية حاليا عملية تحري واسعة حول 112 ألف موظف حكومي تتهمهم بالانتماء للإخوان تمهيدا لفصلهم من أعمالهم.
هذه الهوجة المكارثية المتواصلة والمتصاعدة لن توفر للنظام الغاصب استقرارا يحلم به، بل الصحيح أنها تسهم في المزيد من الغضب والاضطرابات المجتمعية، كما تسهم في توفير بيئة خصبة لترعرع الإرهاب الذي لا يفرق بين سلطة ومعارضة، وبالتالي فإن هذه السلطة هي المتهم الأول بصناعة الإرهاب، وهي تتغذى على وجوده لاستجداء دعم المجتمع الدولي بديلا عن الدعم الشعبي الداخلي الذي تفتقده بسبب سياساتها الفاشلة والظالمة.
أضف تعليقك