الأستاذ جمعة أمين
العلاقات الاجتماعية الحميمة هي علاقة الأبوة والبنوة والزوجية والأخوة والعشيرة وهو الأقربون الأدنون .
كل هذه العلاقات الوشيجة يمكن أن نضحي بها المسلم في سبيل الله وفي سبيل دينه إن تعارضت ودعوته ومسيرته وطريقه وإن حاربوا صده عن سبيل فلو فعل فهو مأجور عند الله تعالى لاستجابته لما طلب منه ولو لم يفعل فإن الله تعالى يتهدده بعذاب عليه أن ينتظره هو وأمثاله من الفاسقين الذين خرجوا عن أمر الله تعالى .
ومعنى ذلك أن المؤمن مطالب بأن يفضل حق الله تعالى وحبه سبحانه وتعالى على حق نفسه وذويه وأن يحب الله أشد مما يحب نفسه وذويه قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } التوبة 23- 24 ].
وهاتان الآيتان الكريمتان فيهما كثير من المضامين التي تتصل بالتضحية في سبيل الله مثل :
التضحية بالقرابة مهما كانت وشيجة.
والتضحية بالمال والتجارة.
والتضحية بالمساكن الطيبة.
التضحية بكل ذلك إيثارا للإيمان بالله وما يوجبه على المؤمن.
كل هذه الآيات من سورة ((براءة)) وهي السورة الكريمة التي جاءت بوجوب البراءة من المشركين والكافرين.
-فالآية الأولى من هاتين الآيتين الكريمتين وهي:{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } التوبة 33 ].
قال المفسرون:
إن هذه الآية الكريمة جاءت جواباً عن شبهة قامت في بعض النفوس مؤدى هذه الشبهة أن البراءة من الكفار في بداية الإسلام كانت متعذرة فقد يكون الرجل في ذلك الوقت مؤمنا وأبوه أو ابنه أو أخوه أو زوجته على الكفر وحصول البراءة في مثل هذه الحالة متعذر أو ممتنع فجاءت هذه الآية لتنزل هذه الشبهة وتبين أن الله تعالى لما أمر المؤمنين بالتبرى من المشركين بل أوجبه إيجابا قال بعضهم : كيف يمكن ذلك ؟ وكيف تكون مقاطعة تامة بين الرجل وأبيه أو ابنه أو أخته أو زوجته ؟
فأوضح الله تعالى أن هذه المقاطعة ممكنة بل واجبة بسبب كفرهم وإصرارهم على عدم الدخول في الإيمان.
وقال العلماء: هذا النهي { لا تتخذوا آباءكم ..} الآية لا يمنع أن يتبرأ الرجل من أبيه في الدنيا كما لا يمنع من قضاء دين الكافر ولا من استعماله في أعماله بل وأن يحسن إليه ويبره ويقسط إليه والولاء هو القرب الشديد المؤدى إلى النصرة بما يعتقد من يواليه وذلك قد نهي الله عنه ومن يتولهم من المسلمين فهو من الظالمين وهناك فرق بين الموالاة والمودة وهي تتصل بحركة القلب أما البر والقسط فهما يتصلان بحركة الجوارح والمنهي عنه هو حركة القلب يقول ابن عباس رضى الله عنه أي يكون مشركا مثلهم لأه رضى بشركهم والرضا بالكفر كفر كما هو مقرر معروف عند المسلمين والآية الثانية وهي : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم ..} إلى نهاية الآية الكريمة وقد تضمنت هذه الآية الكريمة تقرير الجواب عن الشبهة التي ذكرت في الآية السابقة وذلك أن جماعة من المسلمين قالوا : يا رسول الله : كيف يمكن البراءة منهم بالكلية ؟ في حين هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا وذهاب تجارتنا وهلاك أموالنا وخراب ديارنا وإبقائنا ضائعين ؟
فبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليما.
وأوضحت الآية الكريمة أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فتربصوا بهذا الذي تحبون حتى يأتي الله بأمره أي انتظروا عقوبة عاجلة أو آجلة والمقصود من ذلك وعيد الله لهم على اختيار مصالح دنياهم دون مصالح دينهم.
وقوله تعالى: { والله لا يهدى القوم الفاسقين } أي لا يهدى الخارجين عن طاعته إلى معصيته وهذا يتضمن تهديدا ووعيدا.
وهذه الآية الكريمة تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وجميع مهمات الدنيا وجب على المسلم أن يرجح الدين على الدنيا.
وقد أثارت هذه الآية الكريمة الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار أو التي تخدع في مخالطتهم وهي أمور أربعة هي:
الأول: إنهم أقارب وذكروا من هؤلاء الأقارب أربعة أصناف هم : الأباء ، والأبناء والإخوان والأزواج ، وسائر القرابة وقد عبر عنهم بالعشيرة لأن هذا اللفظ يدل عليهم جميعا.
والثاني: الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة
والثالث: الرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة ونحوها
والرابع: الرغبة في المساكن الطيبة والخوف من فقدها
وهذه الآية الكريمة ترغب في إنفاق المال والتضحية به في سبيل الله تعالى وتحذر من أن تكون أعراض الحياة الدنيا من قرابات وتجارات وأموال ومساكن أحب إلى المؤمن من الله ورسوله والجهاد في سبيله بل تتوعد من كان هذا شأنه.
هذا فضلا عن التضحية بالصداقات والجوار والعلاقات الاجتماعية بشتى ألوانها وأنواعها إذا تعارضت مع العقيدة والقيم والأخلاق { فذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير } الشورى 15.
مع التضحية صبر واحتساب
الأصل في التضحية في سبيل الله أن يكون معها صبر بل صبر جميل واحتساب للأجر والثواب عند الله تعالى ومعنى ذلك ألا يكون فيها شئ من الضيق أو التبرم فضلا عن السخط واليأس.
وقد كان ذلك هو المنطق النبوي الكريم في تضحياته منطق لا يستكين ولا يضعف وإنما يعلن: (( إن لم يكن بك على ّ غضب فلا أبالي )).
فالعبرة في أن يكون ما بين الداعي إلى الله وربه سبحانه عامراً بالصلاح والتقوى والصبر والاحتساب عندئذ يستطيع الداعي إلى الله أن يعيش حالة من لرضا والسعادة وانتظار فرج الله وتأييده ونصره بالكيفية التي يشاءها الله وفي الوقت والمكان والظروف التي يريد سبحانه وتعالى.
وليس مضحياً ولا صبرا ذلك الذي يقول: لقد ضحيت وصبرت !! يقول مستبطئ : متى نصر لله ؟ لأن ذلك معناه أن ثقته في الله قد اهتزت بعض الاهتزاز وأن تضحيته وصبره لم تكن جميعاً لله تعالى وإنما شابتها بعض الشوائب والعياذ بالله .
جزاء التضحية عند الله تعالى أعظم الجزاء:
فلقد ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ضحى به وجزاه الله تعالى عن تضحياته خير الجزاء في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فقد طهر جزيرة العرب من الشرك قبل أن يلحق بربه واستطاع أن يجلى اليهود وأن ينتصر عليهم وهم أعداؤه الألداء الذين خانوا وغدروا وحاربوا قتله أكثر من مرة.
وعاش حتى جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا واستطاع أن يرد وأن يناوش جيوش الروم لطامعة وما مات صلى الله عليه وسلم حتى كان الله تعالى قد عز به وبصحبه الإسلام وعزهم به.
وأما في الآخرة فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأعطه فيها الشفاعة وأعد له من لجزاء م لا يعلم عظمته وضخامته إلا لله تبارك وتعالى.
والدعاة إلى الله كذلك:
تضمن الله تعالى لهم بأحسن الجزاء الأخروي إذا كانت تضحياتهم خالصة لله تبارك وتعالى وعد الله لا يخلف الله وعده فقال سبحانه {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} التوبة 72.
وأما الجزاء الدنيوي فمحتمل وليس قطعيا لأنه سبحانه وعد بالنصر لمن نصره ونصر دينه وأخلص له القول والعمل والدعوة والحركة والجهاد وعند تخلف شئ من ذلك قد يتأخر النصر وقد يختار له أقواماً أشد إيمانا وأقوى يقينا قال سبحانه {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} محمد 38 أي خيرا منكم.
وقد يكون من حكمة الله تعالى أن تستمر التضحيات من أجل هذا الدين ليزيد الرصيد من العمل الصالح ويتنزل النصر وقد مهدت له الأرض والنفوس والأحداث.
وليس لأحد من الدعاة إلى الله أو العاملين في مجالات التمكين لدين الله في الأرض أن يقلل من شأن التضحيات لا يتصور أن يكون التمكين لدين الله في الأرض.
والصحابة رضوان الله عليهم طبقات في مقدمتهم العشرة المبشرون بالجنة ثم أهل بدر ثم أهل أحد إلى غيرهم من طبقات التي أفاض العلماء فيها غير أنهم جميعا من أفضل المسلمين كما تحدثت عنهم آيات القرآن الكريم وكما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم رضى الله عنهم الذين حملوا العلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونشروه في الناس وهم الذين انطلقوا بالدعوة إلى آفاق الدنيا يتحملون في سبيل نشرها مالا يتحمله سواهم من المسلمين وبفضل الله عليهم ثم بفضلهم وصل هذا الدين الخاتم إلى الأجيال والقرون التي جاءت من بعدهم ولذلك لم يكن عجيبا أن يصف الرسول صلى الله عليه وسلم القرن الذي عاشوا فيه بأنه خير القرون ووصفهم بأنهم خير الناس روى البخاري وأحمد والترميذى بأسانيدهم عن عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم تجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه شهادته)).
أضف تعليقك