بقلم الدكتور سيف الدين عبد الفتاح
كنت أنوي أن أختم تلك السلسلة من المقالات التي كتبتها حول النقد الذاتي لحال العلوم السياسية، والتي قررت البدء بها في سلسلة النقد الذاتي، حتى يمكننا بعد ذلك التطرق لقوى أخرى في ما يتعلق بنقد لهذه القوى، رؤى ومواقف. وكنت أنوي كذلك أن أكتب تلك المقالة حول انتقاد دوري الذي قمت به قرابة السبع سنوات، فيما بعد ثورة 25 من يناير، لكنني وكنت قد هممت بذلك، لكن طالعتنا صحيفة الأهرام بحديث صحفي مطول لأحد أساتذة العلوم السياسية المبرزين على المستوى العالمي والإقليمي، أو على حد تعبير تلك الصحيفة في وصفها له بـ"أستاذ العلوم السياسية المرموق".
فقد هالني أن يقوم هذا الأستاذ، وهو ينهي حياته العلمية وقد فاق سنه السبعين، أن يعبر عن جملة من الأفكار تقع في باب التصنيف الحديث الذي أطلقناه تميزا "للعلوم السيسية" عن العلوم السياسية. وكنت قد أشرت قبل ذلك إلى أحد شباب الأساتذة في العلوم السياسية، وقد جرفته الجوقة الإعلامية إلى حالة من التدني بالتعبير عن المواقف والأفكار، وبدا البعض كأنه يوجه لي بعض الانتقاد؛ مشيرا إلى أن هذا الأستاذ الشاب قد تتلمذ على يديّ، فرددت على ذلك بأن الأستاذ لا يعد مسؤولا عن تلامذته، خاصة إذا ما غيروا وبدلوا وانتهكوا كل الأصول المرعية بصدد الوظيفة الكفاحية لعالم السياسة.. تلك الوظيفة التي يقوم عليها عالم السياسة، وقد جعل المجتمع والناس نصب عينيه، ولم يجعل المستبد وإرضاءه كل همه وموضع تركيزه. وهممت بالرد على هؤلاء، فلم أجد ردا أبلغ من "إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح"، فلا يعرف الحق بالرجال، كما قال سيدنا علي ابن أبي طالب: "ولكن اعرف الحق تعرف أهله".
إلا أنني هذه المرة كنت في مقام التلميذ لأستاذ عُقد له باب التميز في حقل العلوم السياسية، إلا أنه كأستاذ فقد ظله حينما اهتم بالسلطة والمنصب، وصار يقدمهما في اهتمامه العلمي والعملي، فاعتلى منصب الوزارة، وفي اختبار رهيب، فإن هذا الأستاذ الناجح حصل على صفر كبير، حينما تقدمت مصر لاستضافة كأس العالم في ما أسمي في حادثة شهيرة "صفر المونديال"، وأُجبر على الاستقالة بعد أن مثّل ذلك فضيحة مدوية مهنية وسياسية على حد سواء.
ولكنه رغم ذلك، واصل عمله في خدمة السلطة لمبارك المخلوع، فانتقل من الاهتمام بالأب إلى الاهتمام بالابن في لجنة السياسات، وبدا هذا الازدواج وهذا الانفصال فيما يمثله من قيمة أكاديمية، وما يمثله في ذات الوقت من ترخص شديد في مجال المناصب السياسية والعمل السياسي في ظل الأب والابن (مبارك وابنه جمال)، فكان في عمله من سدنة مبارك المخلوع ومن مخرجي عملية التوريث المنتظرة آنذاك. وكنا ونحن بالجامعة في حيرة من أمر أستاذ أكاديمي في العلوم السياسية يشار له بالبنان، وسقوط وانحدار في ممارسته السياسية يلحظه كل إنسان. وفي هذا الوقت، حينما كنا نستمع إليه في الاجتماعات العلمية والمنتديات البحثية والسمينارات الأكاديمية، يقول مصدرا كلامه: نحن في محفل العلم لا يجوز لنا إلا أن نتكلم بالعلم.. غاية الأمر أننا كنا في حالة أقرب ما تكون إلى انفصام الشخصية، أو ما يعرف بـ"شيزوفرانيا" أكاديمية مدعاة وممارسة سياسية ساقطة، وهنا كان الحرج الشديد الذي كانت تمثله شخصية هذا الأستاذ.
ومضت الأيام ليعبر ذلك الأستاذ الذي كان وزيرا للشباب والرياضة في عهد المخلوع عن استخفاف بالشباب، وعن آماله وأشواقه في التغيير، فانتقد شباب "فيسبوك" قبل الثورة مدينا؛ إياه ومستخفا بموقفه ومبتغاه، حتى أنه كانت كلمة "شباب الفيسبوك" على لسانه ليست إلا دلالة على التحقير لهم والاستخفاف بمواقفهم وعملهم.. وكانت الثورة، وسقط مبارك المخلوع، وانزوى كل هؤلاء الذين كانوا يعملون بجد واجتهاد في مشروع التوريث الساقط لجمال مبارك. سقط الأب والابن بعد ثورة يناير وتوارى الأستاذ.
في ظل هذه الحالة الثورية، بدونا نحن من أيد الثورة في حرج شديد.. فكل هؤلاء الذين كانوا من سدنة التوريث السياسي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وقد انضموا زرافات إلى لجنة السياسات، قد انزوا بعد الثورة المباركة في 25 من يناير.. كان على هؤلاء، ومنهم ذلك الأستاذ الكبير، أن يدلف إلى قاعات الدرس، فتتابعت مع زلزال الثورة توابع صغيرة في مؤسساتنا التعليمة، ومنها الكلية.. طلاب الكلية، خاصة في قسم العلوم السياسية، يرفضون أن يدرسوا على يد هؤلاء الأساتذة، بل ويهجمون عليهم في قاعات الدرس، وكنا في هذه المرة في أقصى درجات الحرج البالغ.. كان علينا هذه المرة أن نحث الطلاب على الصمت والأدب وعلى الاحترام قِبل أساتذة كانوا في ركب السلطة والسلطان، وفي الإعداد لمسرحية التوريث السياسي من الابن إلى الأب.
إذن إن فصول الثورة لم تنته عند هذا الحد، فحينما أتى الرئيس مرسي برز هؤلاء مناكفين ومعارضين، ولكن على استحياء، إلى أن وقعت الواقعة، وحدث الانقلاب العسكري، فبرز هؤلاء مرة أخرى وقد سموا من قبل بالفلول، ليتحدثوا عن "الدولة والدولتية" وعودة الدولة، وتغاضوا عن كل قيم ومبادئ ديمقراطية، وبرز السيسي ليتفوق على مبارك في نظامه الاستبدادي ليُمكّن لنظام فاشي ودولة بوليسية، ويصنع دولة وجمهورية الخوف، فصار هؤلاء، وعلى رأسهم ذلك الأستاذ، يعزفون معزوفة استعادة الدولة.. لم تكن تلك الكلمة إلا شفرة لتبرير وتبرير الدولة الفاشية والبوليسية تحت غطاء العلوم السياسية، وهو ما جعلنا، بعد أن أطلق أحدهم لفظ "العلوم السيسية"، أن نتبناه في كتاباتنا، للتأكيد على هذه الظاهرة المخزية التي تمتهن جوهر الوظيفة لعالم السياسي والكفاحية المفترضة.
لقد صادفت حديثا لهذا الأستاذ في جريدة الأهرام، وقد ورد في صدره "أن مصر تحتاج للولاية الثانية للرئيس إلى إعادة رسم الخريطة القومية، وأن يكون الإصلاح المجتمعي والتربوي هو الجهاد الأكبر وإعادة منظومة القيم التي توحشت في فترة الفوضى".. فثورة يناير أصبحت فترة فوضى، والإصلاح التربوي والمجتمعي، الذي هو جهاد أكبر، لم يكن إلا فعل السيسي في فترته الأولى ما بعد الانقلاب، وأن ما يحدث الآن ليس إلا استعادة للقيم التي افتقدت في فترة الحكم.. هذا هو التحليل لأستاذ كنا نظنه عظيما، بل إنه أكثر من ذلك؛ يدين ظاهرة التعددية السياسية، فهو من طرف خفي يشير إلى أن التعددية الحزبية قبل عام 2011، أي في عهد مبارك المخلوع، كانت مقيدة، إلا أنه فيما بعد الثورة أصبحت التعددية الحزبية مفرطة وعبثية. وهو يبشرنا بأن هذا الوضع يستلزم قانونا جديدا للأحزاب يقضي على إنشاء الكيانات الحزبية غير الجادة، ويضع شروطا؛ منها أن من لم يمثل في مجلس النواب في هذه الأحزاب يتم حله. هكذا، أستاذ السياسية المقارنة الذي يدرس الديمقراطية يبشرنا بحل الأحزاب السياسية، فهي عنده ظاهرة عبثية.
وأشار في حواره في الأهرام إلى "أن الجلبة والضجيج السياسي الموجود في تعديل الدستور هدفهما في الأساس مد فترات الرئاسة"، وليس شيئا آخر، وأنه يؤيد تعديل هذه المادة فقط و"للرئيس السيسي وحده" (لا شريك له) وليس لمن يأتي بعده، وذلك "لما يتطلبه الظرف الاستثنائي الذي نعيش فيه". ويتحدث عن "فترة السيسي الأولى، فهناك إنجازات مشهودة يدركها الجميع، وهي تفتح الباب لمواجهة تحديات كبرى في المرحلة القادمة لا تقل خطورة عن المرحلة السابقة، وهي الاستمرار في الطريق الذي بدأته مصر في إعادة البناء وتوسيع نطاقه وترسيخ أركانه. وعلينا أن نواصل العمل والجهد، وعدم التراخي، وأن ننتقل - كما يقول علماء التكنولوجيا - من "الهارد وير" إلى "السوفت وير".
ومن العجيب حقا أنه في نهاية حديثه، حينما يسأل عن المثقف ودوره وتدهور التعليم وأزمة المثقفين والثقافة، فإنه يقول كلام عجيبا، فيتحدث عن صنف من المثقفين يأكل على كل الموائد ويسيرون في ركاب كل الحكام، أفتراه بعد ذلك يمثل الطريقة الهلالية؟! ألا تراه أنه أحد المثقفين والأكاديميين الذي أشار هو بنفسه "ومنهم المنتهز ومن يأكل على كل الموائد فصاروا في ركاب كل الحكام ".. حقا لم يكن أمامي إلا أن أكتب هذا المقال؛ أتبرأ فيه من الأستاذ كما تبرأت من قبل من التلميذ؟!!
أضف تعليقك