الأستاذ جمعة أمين
لقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهم أسباب القعود والنكوص والكسل والتراخي وعدم الإقبال على التضحيات فبيّن صلى الله عليه وسلم أن ذلك راجع إلى مرض خطير فتاك أصاب الشخصية الإسلامية في مقتل فأحبت الدنيا وكرهت الموت، نعم إنها أحبت الدنيا وتعلقت بها وخدعتها وغرتها وزين لها { حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة والأنعام و الحرث } آل عمران 14 نسيت أن ذلك كله متاع الحياة الدنيا ، و الله عنده حسن الثواب، وهذا سر هزيمة المسلمين اليوم مع كثرتهم، وانتصار الرجال الذين كانوا حول الرسول صلى الله عليه وسلم مع قلتهم .
هذه القلة صنع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جيلاً فريداً فهم يقومون الليل، ويصومون النهار، فرسان رهبان، ينفقون بأيمانهم ما لا تعلمه شمائلهم، قطعوا المسافات هجرة إلى الله بدينهم ، وقضوا الليل و النهار عبداً لله ، وعمارة للكون فعمروه بمنهج الله ، لذلك لم يشعروا بالتفاهة و الضياع ولم يعيشوا والدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم إنما عاشوا لإقامة الحق، وإفاضة الخير وإشاعة الجمال في هذا الكون لتسعد البشرية بمنهاج ربها .
إنه شعور بجسامة المسئولية، وعظم الأمانة التي يحملها الرجل منهم ، فكيف ينام قرير العين صاحب هذا الشعور ؟ وهو مستشعر أن الواجبات أكثر من الأوقات ، فيجب أن يقتنص العاقل في هذه الدنيا كل لحظة لصالح دعوته ، من أجل ذلك كان من دعاء الصديق رضي الله عنه “ اللهم لا تدعنا في غمرة ولا تأخذنا على غرة ولا تجعلنا من الغافلين " وكان عمر رضي الله عنه يدعو أن يرزقه الله البركة في الأوقات وإصلاح الساعات، لأنه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ؟ وعن ماله مم اكتسبه ؟ وفيما أنفقه ؟.
إن هذا الجهد الذي يبذله الداعي ، وهذا الوقت الذي ينفقه في الدعوة لا يحتاج من الفئة التي عاهدت الله على حمل الرسالة ومواصلة الطريق مهما كانت الصعاب إلى من يأمرهم بهذا أو يكلفهم به أو حتى يذكرهم به ، فهذا الأمر الجلل - الدعوة إلى الله - لا يغيب عنهم لحظة من ليل أو نهار ، فهي الهواء الذي يتنفسونه وهي الحياة التي بها ولها يحيون ، فهل الإنسان في حاجة إلى تذكرة ليستنشق الهواء ؟ فكيف بالداعي الذي تجرى في عروقه الدعوة ، وهي بالنسبة له الحياة ؟ أيحتاج إلى توجيه من أحد يكلفه وهي حركته التلقائية أينما كان في بيته أو مكتبه أو متجره أو وظيفته ، مع أهله أو جيرانه أو مجتمعه إنه يشعر بأنه مكلف بذلك سلفاً من قبل الله عز وجل .
يشعر بذلك ويعمل على نشرها في الآفاق كما فعل هدهد سليمان حين تفقد الطير فقال { مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين } النمل 2. ، فإذا بالهدهد يقول له { أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين } النمل 22 ، ولكي ترى كم من المسافات قطع وكم من الجهد بذل وضحى ؟ لك أن عرف أن مملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن فقطع الهدهد هذه المسافات الشاسعة و الفيافي و القفار وبلغ قائده بما رآه حتى يرسل أتباعه لينشروا دعوة الله .
إذا كان هذا حال هدهد يسعى بدعوته ، فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعدما رأى فيها من دلائل الحق و المنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه ، وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان ، تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكواً ، ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله و الجحود و الفجور ، ولكنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره وتحرك في شعوره ، وسعى به إلى قومه ، وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويهددون ، وجاء من أقصى المدينة يسعي ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق ، وفي كفهم عن البغي ، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين ، وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان ، ولم يكن في عزوة من قومه أو منعة من عشيرته ولكنها العقيدة الحية في ضميره والإخلاص لدعوته الذي دفعه لهذه التضحية فجاء من أقصى المدينة إلى أقصاها { قال : يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون }يس 2.-21 ، إن الذي يسعى هذا السعي ، ويبذل هذا الجهد ، وهو لا يطلب أجراً ولا يبتغى مغنما ، إنه لصادق في تضحيته مخلص لدعوته يريد لها انتشاراً وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبى تكليفاً من الله ؟ ما الذي يدفعه إلى حمل هذه الدعوة ومواجهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة ؟ و التعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم ، وهو لا يجنى من ذلك كسباً ، ولا يطلب منهم أجراً ، بل بذل جهده وأنفق وقته ليلقى بكلمة الإيمان الواثقة المطمئنة وأشهدهم عليها ، وطلب منهم أن يقولوها كما قالها .
إن إخلاص الداعي الذي يبذل الطاقة ويقضى وقته في الدعوة إلى دين الله لينتشر بين الناس جميعاً ، ويكون رأياً عاماً لدعوته لا ينتظر تكليفاً من أحد ولا أمراً من قيادة ، إنما هي تلقائية الحركة بدافع الإخلاص لها - كما ذكرنا -.
وصنف تحمله الدعوة
أين هؤلاء الرجال من هؤلاء الذين تحملهم الدعوة ولا يحملونها بل ربما يسببون إعاقة للصف ، وداء يسبب العدوى ، وقدوة للكسالى ، وحجة للبطالة ، يضعفون الهمم ، فتراهم ينشغلون بأعمالهم ومشروعاتهم ، ومصالحهم وأولادهم ودنياهم فإذا ذكرتهم فما أكثر الأعذار ، وإن عاتبتهم فما أكثر الحجج ، وإن حاسبتهم فما أشد غضبهم ، هم للدنيا يعطون وللدعوة يبخلون ، إن الدعوات لا تنتصر بأصحاب المصالح ، ولا بطلاب الدنيا ، ولا المعطين للدعوة فضول أوقاتهم وجهدهم ، ولا طالبي الأضواء وعبادة الشهرة و الظهور ، بل بمن سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف ( الأبرار الأتقياء الأخفياء ، الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا قلوبهم مصابيح الهدى ) .
إنهم وقفوا حياتهم لدعوتهم فتراهم شامة في جبين الزمن في مواقعهم بين أساتذة الجامعات هم في المقدمة علمياً وأخلاقياً ودعوياً يعطى من وقته لبنى جلدته ليورثه الطريق علماً ودعوة ، وتراهم في المصانع مهندساً كان أم إدارياً أم عاملاً يتقدم الصفوف ويشهد له الجميع بأنه في القمة في خصصه أولاً ، خادماً به دعوه ، قدوة لغيره في جودة الأداء ، كما تراهم بين من يفكرون في إيجاد الوسائل التي تناسب العصر نشراً لهذه الدعوة ، فإذا اخترع الأعداء آلة أو جهازاً ليستخدموه في مصالحهم وأفكارهم ومعتقداتهم بذلوا جهدهم لكي يستغلوه في دعوتهم ، فجميع أوقاتهم مسخرة لدعوتهم ، إنهم في هم دائم وانشغال مستمر أينما كانوا في بيوتهم أو بين جيرانهم أو في مواقع عملهم يضحون بمصالحهم الشخصية في سبيل نشر دينهم ودعوتهم ، لا يبالون بسخرية ولا استهزاء ، ولا إيذاء حتى لو قدر لهم أن تكون أوقاتهم التي يبذلون بين الجدران و الزنازين تراهم في شغل دائم وتفكير مستمر وبذل للجهد واستغلال للوقت لصالح دعوتهم ، يقولون كما قال نبي الله يوسف { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } يوسف 39 وقدوتهم في ذلك رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الغر الميامين ، كمصعب بن عمير الذي هاجر إلى المدينة بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك الأهل و الوطن و المال وبذل كل وقته سعياً بين الأوس و الخزرج داعياً إلى الله على بصيرة بحكمة وموعظة حسنة ومجادلة بالتي هي أحسن ، فمهد لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه فكان خير سفير ، وعاد باثنين وسبعين رجلاً وامرأتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن آمنوا خلال عام واحد قضاه ، وكذلك جعفر بن أبى طالب وإخوانه الذين هاجروا إلى الحبشة والأمثلة كثيرة من أصحاب الهمم العالية .
وفي عصرنا الحديث و القريب أمثلة مشرفة كذلك من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، أنذروا حياتهم لدعوتهم ، واستغلوا كل ثانية ودقيقة لصالح هذه الدعوة ، فالوقت بالنسبة لهم ليس من ذهب كما يقول الذين يقيسون الوجود من الناحية المادية ، ولكنه الحياة لأن حياة الإنسان في هذا الوجود هي الوقت الذي يمضى بين الوفاة و الميلاد ، فقد يذهب الذهب وينفذ ولكنك تستطيع الحصول عليه بعد ذلك ، وتستطيع أن يكون معك منه أضعاف ما فقدت ، ولكن الوقت الذاهب و الزمن الفائت لا تستطيع له إعادة أو إرجاعاً ( فما إن ينبثق فجر يوم جديد إلا وينادى مناد يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمنى فإني لن أعود إليك إلى يوم القيامة ) .
ولذلك كان أعظم الناس تعرضاً للخسارة والإخفاق أولئك المضيعون لوقتهم الغافلون عن رسالتهم { ولقد ذرأنا لجهنم كثير من الجن والإنس لهم قلوب لا يعقلون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } الأعراف 179 .
من النماذج الحية
من هذه النماذج الحية التي بذلت الوقت و الجهد و القوة و الثبات على الدين ما كان من أبى ذر الغفارى رضى الله عنه لما أعلن إسلامه بمكة وذلك في أول الإسلام . أخرج الإمام البخاري ومسلم من عدة طرق ومنها ما أخرجاه عن عبد الله بن عباس رضى الله عنه قال :لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه : اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء فاسمع من قوله ثم ائتني .
فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله ثم رجع إلى أبى ذر فقال : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر فقال : ما شفيتني فيما أردت .
فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قد م مكة فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل فاضطجع فرآه على رضى الله عنه فعلم أنه غريب فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ حتى أصبح ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد فظل ذلك اليوم ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به على فقال : ما آن للرجل أن يعلم منزله ؟ فأقامه فذهب به معه ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ حتى إذا كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك فأقامه على معه ثم قال : ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد ؟
قال : إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت ففعل فأخبره فقال : فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه فسمع من قوله وأسلم مكانه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :((أرجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري )) فقال : والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم .
فخرج حتى أي المسجد فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه فأتى العباس فأكب عليه فقال : ويلكم ألستم تعملون أنه من غفار وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليهم ؟ فأنقذه منهم ثم عاد من الغد لمثلها وثاروا إليه فضربوه فأكب عليه العباس فأنقذه .
في هذا الخبر بيان للرعب الشديد الذي أثاره زعماء الكفار في مكة حتى أصبح القادم لا يستطيع أن يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحذر شديد كما فعل أبو ذر الغفارى رضى الله عنه وأصبح المسلمون لا يستطيعون أن يصبحوا القادمين ظاهراً بل لابد من الاحتيال لإخفاء هذا الاصطحاب كما فعل على بن أبى طالب رضى الله عنه فانظر لترى كم من الجهد بذل أبو ذر وكم عانى للوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم تحمل من مشاق ؟ وكم مكث من الليالي مستخفياً ؟
وكان مصرا إلى الاستخفاء حتى يحصل على بغيته من الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يمنع من ذلك فلما وصل إليه وآمن به كان قوياً في إعلان إسلامه لأنه لا يخشى على نفسه وإنما كان يخشى أن يمنع من سماع دعوة الحق .
لذلك رأينا أبا ذر رضى الله عنه يجهر بأيمانه بهذا الدين أمام أعدى أعدائه آنذاك بعدما اقتنع أنه دين الحق لا يخشى في الله لومه لائم .
وهذه نفحة من نفحات قوة الإيمان أبت إلا أن تبدو في صورة ظاهرة من الاعتزاز بالإسلام والتحدي القوى لأعدائه .
إن إعلان الإسلام بهذه الصورة من رجل ليس له عشيرة ولا حلفاء في مكة أمام أعداء يهيمنون على الوضع القائم آنذاك ويعذبون المسلمين .. إن هذا الإعلان سلوك جرئ يشف عن محرك قوى من الإيمان جعله يضحي بكل شئ .
وإنه إذا كان المسلمون في فترات ضعفهم وقلتهم بحاجة إلى المداراة والاستخفاء فإن بروز أفراد منهم يتحملون ويضحون في سبيل إعلان دعوة الحق له أثره البالغ في توهين قوى الأعداء وتقوية إيمان المسلمين وربط قلوبهم .
وكون النبي صلى الله عليه وسلم لأبى ذر :(( ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري )) دليل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم العظيم بنشر دعوته وإشعار المسلمين بواجبهم نحو ذلك .
وقد جاء في رواية أخرى أخرجها الإمام مسلم ما هو أبلغ في الدلالة على ذلك وذلك في قوله صلى الله علي وسلم لأبى ذر : (( إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عنى قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم ! )) .
قال أبو ذر : فأتيت أنيسا فقال : ما صنعت ؟ قلت : صنعت أنى أسلمت وصدقت قال : ما بي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتينا أمنا فقالت : ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وكان يؤمهم ((إيماء بن رحضة الغفارى )) وكان سيدهم وقال نصفهم : إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم نصفهم الباقي )) .
وهكذا أسلمت قبيلة غفار بدعوة أبى ذر بعد أن بذل ما بذل من جهد ووقت وتحمل الأذى في سبيل نشر دعوته وكان له ولقومه مواقف مشرفة في الدعوة والجهاد .
أضف تعليقك