بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وتقاسم أراضيها، تزعم مصطفى كمال ما سمي بحرب الاستقلال لتحرير الأناضول المحتل، وظهرت كاريزما الرجل بصورة واضحة حينما رفض أوامر السلطان بالتخلي عن الواجب والعودة إلى إسطنبول المحتلة من البريطانيين، فاستقال من الجيش ونظم منذ مايو عام 1919 قوات التحرير التي قاتلت اليونانيين والبريطانيين والفرنسيين والإيطاليين تحت قيادته، حتى تمكن قبل نهاية صيف عام 1922 من طرد القوات المحتلة من بلاده.
أكسبت هذه الانتصارات الجنرال مصطفى كمال شهرة ملأت آفاق العالم الإسلامي الذي نظر إليه كبطل لاسيما وأنه استعان بالرموز الدينية وعلماء الدين في حشد الناس للقتال معه، ورفع المصحف وانهالت عليه المساعدات خاصة من مسلمي الهند، وبرقيات التهاني بعد الانتصار من البلدان الإسلامية.
ونظم شوقي قصيدة الشهيرة:
الله أكبر كم في الفتح من عجب *** يا خالد الترك جدد خالد العرب
صلح عزيز على حرب مظفرة *** فالسيف في غمده والحق في النصب
يا حسن أمنية في السيف ما كذبت *** وطيب أمنية في الرأي لم تخب
وخلال معارك التحرير وتحديدا في ربيع عام 1920 أسس مصطفى كمال «المجلس الوطني العظيم» في أنقرة من ممثلي القوى الشعبية المشاركة في حرب التحرير ليتحول إلى حكومة موازية لسلطة الخليفة العثماني في إسطنبول، وفي عام 1921 أصدر المجلس ما سماه «القانون الأساسي» الذي تزامن صدوره مع إعلان النصر وتحرير الأراضي التركية في صيف عام 1922، وأعلن فيه مصطفى كمال إلغاء السلطنة.
في يوليو عام 1923 وقعت حكومة مصطفى كمال معاهدة لوزان والتي تم إبرامها مع الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى بزعامة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وقد كرست المعاهدة قيادة أتاتورك لتركيا باعتراف دولي، فأعلن في 29 أكتوبر من نفس العام ولادة الجمهورية التركية وألغى الخلافة، وأعلن رئيسا وجعل أنقرة عاصمة للدولة الجديدة بدلا من إسطنبول، وبدأ سلسلة إجراءات غير من خلالها وجه تركيا الإسلامي بالكامل.
وقد رثى شوقي سقوط الخلافة بأبياته الشهيرة:
عادت أَغاني العُرسِ رَجعَ نُواحٍ ونُعيتِ بين مَعالِمِ الأَفراحِ
كُفِّنتِ في لَيلِ الزِّفافِ بثوبِهِ ودُفِنتِ عند تبلّجِ الإصباحِ
شُيِّعتِ من هَلَعٍ بِعبرَةِ ضاحِكٍ في كُلِّ ناحيةٍ وسكرةِ صاحِ
ضَجَّت عليكِ مآذِنٌ ومَنابِرٌ وبكت عليكِ ممالكٌ ونَواحٍ
الهِندُ والِهةٌ ومِصرُ حزينةٌ تَبكي عليكِ بمدمعِ سحاحِ
والشَّامُ تَسأَلُ والعِراقُ وفارسٌ أَمَحى من الأَرضِ الخِلافةَ ماحٍ
والمريب في معاهدة لوزان، أنها تمت على مرحلتين، في المرحلة الأولى لم يتم الاتفاق بسبب هوية تركيا الإسلامية، رغم أن دول أخرى مثل بلغاريا حسمت أمرها في هذه المرحلة.
وفي المرحلة الثانية تم الاتفاق «معاهدة لوزان الثانية» بشروط استهدفت بالأخص الهوية الإسلامية لتركيا وتلجيم وضعها الاقتصادي، مثل: علمانية الدولة، ومصادرة جميع أموال الخلافة والسلطان، وعدم وضع أي قيود على المواطنين في استخدام أي لغة يختارونها مهما كانت، سواء أكان ذلك في العلاقات الخاصة أم في الاجتماعات العامة أم في مجالات الدين والتجارة والإعلام والنشر، ومنع تركيا من التنقيب عن النفط.
وبتجميع الخيوط التاريخية يمكن أن تظهر شخصية أتاتورك الذي قدم «معاداة الدين» قربانا للأعداء كي يتمكن من مفاصل دولة الخلافة، خاصة وأنه خلال حرب الاستقلال كان يحصل على السلاح من روسيا عدو الأمس! كما أنه لم يجد غضاضة في الانصياع للغرب المتعطش لإجهاض الخلافة الإسلامية، ولذلك حظي باعتراف دولي منهم في معاهدة لوزان الثانية بعدما تفهم مطالبهم في الجولة الأولى.
إضافة إلى أن أتاتورك نفسه كان عضوا فاعلا في «جمعية الاتحاد والترقي»، وهدفها الرئيسي المعلن (الملكية الدستورية النيابية) أما الهدف الخفي فهو زعزعة الخلافة وعلمنة الدولة، وفي سالونيك اتخذت الجمعية سمتها العسكرية، ونمت فاعلياتها، ولاسيما بعد الاتصال بالمحافل الماسونية العاملة هناك، كما تلقت معونة اليهود الشرقيين (السفارديين) الذين طُردوا من الأندلس وتحوّل عدد منهم إلى الإسلام في القرن السابع عشر، وعرفوا باسم «الدَونَمة».
لقد كان السلطان عبد الحميد الثاني يقف عقبة كؤودا أمام الأطماع الأوربية في تفتيت الدولة العثمانية، والأطماع الصهيونية في فلسطين، ونجحت المكائد والدسائس في إبعاده عن الخلافة سنة (1909م) بالتعاون مع حزب الاتحاد والترقي، الذي كلف وفداً من أربعة أشخاص هم: عارف حكمت باشا وآرام الأرمني وأسعد طوطاني وقره صو عمانوئيل اليهودي، وقرأ الوفد فتوى عزل السلطان.
أشار السلطان عبد الحميد إلى قره صو قائلاً: “ما هو عمل هذا اليهودي في مقام الخلافة؟ وبأي قصد جئتم بهذا الرجل أمامي؟”.
لقد اعتبر اليهود والماسونيون هذا اليوم عيداً لهم، وابتهجوا به وساروا بمظاهرة كبيرة في مدينة سلانيك، ولم يكتف الماسونيون بذلك بل طبعوا صورة هذه المظاهرات في بطاقات بريدية لتباع في أسواق تركيا العثمانية ولمدة طويلة.
ولقد كان الاتحاديون يفتخرون دائماً بأنهم ماسونيون. وقد أدلى رفيق مانياسي زادة بتصريحات إلى صحيفة تمبس الفرنسية في باريس عقب نجاح انقلاب حركة الاتحاد والترقي، حيث جاء فيها: “لقد كانت للمساعدات المالية والمعنوية التي تلقيناها من الجمعية الماسونية الإيطالية التي أمدتنا بالعون العظيم نظراً لارتباطنا الوثيق بها”.
وفي مقال نشرت في جريدة (بويوك ضوغو) التركية في 2 مايو عام 1947م العدد 61 يقول (محرم فوزي طوغاي) تحت عنوان (فلسطين والمسألة اليهودية) الآتي:
“منع السلطان عبد الحميد تحقيق هدف إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وكلف هذا لمنع السلطان عبد الحميد غالياً وأودى بعرشه، وأدى هذا فيما بعد إلى انهيار الدولة العثمانية كلها”.
رغم أنه كان يدرك -كما قال نظام الدين لبه دنلي أوغلو- في دراسته عن دور اليهود في هدم الدولة العثماينة أن “اليهود يمتلكون قوى كثيرة تستطيع النجاح في العمل المنظم، فالمال كان عندهم والعلاقات التجارية الدولية كانت في أيديهم. كما كانوا يمتلكون الصحافة الأوروبية والمحافل الماسونية”.
كان حزب الاتحاد والترقي أول حزب سياسي ظهر في الدولة العثمانية، وأصبح هذا الحزب صاحب السلطة الحقيقية بعد عزل السلطان عبد الحميد، وكان معظم أعضائه من الماسونيين، وكان ضباط الجيش التركي هم أبرز الاتحاديين وعلى رأسهم مصطفى كمال أتاتورك.
وقد تولى الخلافة بعد خلع عبد الحميد أخوه الأمير رشاد الذي تسمى بمحمد الخامس، وكان في الرابعة والستين من عمره، وكانت الدولة والعرش العثماني نفسه في حالة احتضار، لكن الدولة كانت متماسكة إلى حد ما، وخضع السلطان للاتحاديين الذين سعوا إلى أن يستقر الحكم في قبضتهم.
وأول حكومة لحزب الاتحاد والترقي كانت مكونة من 13 تركي وواحد عربي وثلاث يهود!!
ولما وقعت الحرب العالمية الأولى سنة (1914م) انضمت حكومة الاتحاد والترقي إلى جانب ألمانيا، ودخلت تركيا حربًا لا دخل لها بها، وأجهضت قوتها البشرية والاقتصادية والعسكرية، حيث تمزق الجيش التركي على جميع الحدود والجبهات نتيجة للقيادة الفاشلة والعميلة، وانتهت الحرب سنة (1918م) بهزيمة ألمانيا وتركيا، وتحطُّم دولة الخلافة وتمزق أوصالها، حيث استولى الإنجليز على قلاع الدرنديل، واحتلت الجيوش الفرنسية والإنجليزية مدينة إسطنبول، واحتلت اليونان أزمير، ووقعت هدنة “مدروز” التي نصت على استسلام الدولة العثمانية دون قيد أو شرط، وبدأت القوات العثمانية تلقي سلاحها، واستعد الحلفاء لاحتلال الأستانة وغيرها من المدن التركية، وأدت روح التشفي التي صدرت عن الحلفاء والأقليات الدينية إلى نمو روح المقاومة لدى الأتراك.
أما كبار رجال حزب الاتحاد والترقي الذين كانت في أيديهم مقدرات البلاد فقد فروا من البلاد، وكان السلطان العثماني الجديد “محمد وحيد الدين” يدرك أن وجود تركيا لازم لدول الغرب لإقامة التوازن بينها، كما أن بريطانيا وفرنسا لن تسمحا بالقضاء على تركيا قضاءً مبرمًا؛ لأن ذلك يفسح المجال أمام روسيا الشيوعية للاستيلاء على الأناضول، وبالتالي على مضيق البوسفور والدرنديل، بل كل ما تريدانه هو جعل الدولة العثمانية دولة صغيرة مثل الدول التي ستقوم على أنقاضها؛ لذا رأى السلطان أن ما أُخذ من الدولة العثمانية لا يسترد إلا بالقتال، وبالتالي فلا بد من القيام بثورة في البلاد؛ لذلك استعان بمصطفى كمال، وعهد إليه بأن يقوم بثورة في شرقي الأناضول حتى يتسنى لرجال السياسة أن يستخدموا هذه الثورة كورقة ضغط أثناء عقد الصلح مع الحلفاء حتى يحصلوا على أكثر ما يمكن من المكسب، وللتغطية على هذه الثورة خاصة من الإنجليز الذين كانوا يسيطرون على إسطنبول، عين السلطان “وحيد” “مصطفى كمال” مفتشا لجيوش الأناضول بصلاحيات واسعة، وزوده بمبلغ كبير من المال، ووضع فيه ثقته، لكنه خان الأمانة وغدر بالسلطان وعمل لنفسه.
غادر مصطفى كمال إسطنبول في (مايو 1919) بعدما عهد إليه السلطان العثماني بالقيام بالثورة في الأناضول، واختار معه عددًا من المدنيين والعسكريين لمساعدته، وبعدما استطاع جمع فلول الجيش حوله هناك بدأ في ثورته، فاحتج الحلفاء على هذا الأمر لدى الوزارة القائمة في إسطنبول المحتلة، وهددوا بالحرب، فاضطرت الوزارة إلى إقالته، وعرضت الأمر على السلطان، الذي أوصى بالاكتفاء بدعوته إلى العاصمة، لكنه اضطر بعد ذلك إلى إقالته فلم يمتثل أتاتورك لذلك وقال في برقية أرسلها للخليفة: “سأبقى في الأناضول إلى أن يتحقق استقلال البلاد”.
بدأ مصطفى كمال حكمه في تركيا بتغيير هوية وهيئة الناس الإسلامية، حيث منع اعتمار الطربوش والعمامة وروج للباس الغربي، كما منع النساء من الحجاب، ومنع المدارس الدينية وألغى المحاكم الشرعية، وأزال التكايا والأضرحة وألغى الألقاب المذهبية والدينية، وتبنى التقويم الدولي، وكتب قوانين مستوحاة من الدستور السويسري، وفي عام 1928 ألغى استخدام الحرف العربي في الكتابة، وأمر باستخدام الحرف اللاتيني في محاولة لقطع ارتباط تركيا بالشرق والعالم الإسلامي.
تحولت تركيا خلال 15 عاما من حكم مصطفى كمال بشكل جوهري، ولم يكتف بإزالة آخر دول الخلافة الإسلامية لكنه حارب الدين والتدين من خلال النظام العلماني الذي شرعه في تركيا، بل إنه ربط تقدم البلاد وتطورها بالتخلي عن الهوية الإسلامية تاريخا وممارسة، ومع ذلك لم تتحسن أحوال تركيا على كافة المستويات في عهد أتاتورك وأسلافه من العلمانيين والعسكريين.
أضف تعليقك