بقلم: شريف أيمن
ربما يأتي رمضان ليجذبنا من أحاديث الدنيا والسياسة إلى أحاديث الآخرة المنسيّة، وسط هموم العيش من جهة، وسواد القلب بالمعصية من جهة أخرى، فنَصُبّ على القلب المسوَدّ بعضا من ماء التزكية الصافي، فيعود الإرْواءُ والإنْباتُ للقلب المُنْبَتِّ عن أصل الحياة والإرواء، وهو معرفة الخالق جلّ ذكرُه.
أحد أعظم الدروس التي لُقِّنّاها في محاضن الأزهر الشريف "أن الله يغفر وإن لم نستغفر"، وحينها كان المعنى عصيّا على الإدراك، إلى أن أظهره الله بالعَيَان لا بالإشارة، فنظرتُ لسوء سلوكي مع أبي أو أَبَوَيّ ووجدت الإحسان يقابل الإساءة دون تقديم اعتذار، ومقام الولد أَحَطُّ مكانة من مقام الأبوة، إلا أن الوالد كان يغفر ذنبي وإساءتي تجاهه دون أن أستغفره، فإذا كان هذا فعل الوالد مع ولده فكيف بالرب الرحيم مع مربوبيه؟
من هنا تغيرت الكثير من المفاهيم حول معنى العبادة، وتحولها من أداء عبادة واجبة إلى خطوة في الطريق إلى الله، دون الإخلال بمفهوم "الوجوب"، لكن تحول الأداء إلى رغبة في الوصول إلى معرفة الخالق ونيل محبته، ورغم كثرة العثرات والتنكّب عن الطريق من عبد خاضع لهواه، إلا إنه لا يزال يرجو نظرة رضا من مولاه، فهو الذي يغفر دون أن نستغفر، فكيف يكون العطاء لو اعتذرنا واستغفرنا؟ ويمنح العبدَ وهو مجافيه، فكيف بمن تودد إليه؟
إن هذه المعاني ربما تغيب بتأويل خبيث يلقيه الشيطان في النفْس، فسمعنا من يقول عن نفسه إنها مستغرقة في الذنوب، فكيف يقف أمام الله بها؟ ويشرط على نفسه تصحيح حاله قبل العبادة.
ولم يدرِ المسكين أن حال المعصية يحتاج إلى تكثيف الوقوف على الأعتاب، فإذا كان المرء عاصيا ولم يقف، فمتى يقف؟ وكيف سيصحح حاله أصلا دون عبادة؟ فكأنه يطلب المستحيل وهو انتظار أن ينصلح حاله قبل أن يبدأ في العبادة، في حين أن صلاح الحال مرهون أصلا بالشروع في العبادة، فهذه دائرة لا خروج منها إلا بكسر إحدى حلقاتها.
ثم كيف يغفل صاحب هذه الشبهة من الإرشاد النبوي: "وأتْبِع السيئة الحسنة تمحها"؟ فالمعاصي -والحسنات كذلك- كالبذور تستمد الحياة مما تُسقى به، فإن كانت السقاية خبيثة كان النبت خبيثا، وإذا لم يقم المرء بتنقية نفسه من الخَبَث تجذّر وصَعُبَ نزعه من القلب، والرحمة الربانية اقتضت أن تكون هناك إعانة على الهداية بوجود مواسم الخير كرمضان، فتتضاعف فيه الحسنات، وتسمو النفس للخير دون عناء، وتفرُّ من المعصية دون عَنَت، ويجتمع الناس على الطاعات فيعينوا بعضهم بعضا.
ومن رحمة الله كذلك في هذا الشهر، أنه يذكّر كل عبد بأنه قادر على مغالبة نفسه إذا دعته للسوء، فتجد من لا يقدر على ترك السجائر لساعة واحدة يهجرها لستة عشر ساعة امتثالا لأمر الله، ومن أطلق بصره في الحرام أمسكه طوال وقت الصيام، وغير ذلك الكثير مما يقع المرء فيه، وكأن رسالة الله إلى كل امرئ: إن بين جنباتك نَوَازِعا للخير وهي غلّابة لنوازع الشر، فاستمسك بها وارقُبها حتى تكون لها الغلبة إلى أن تلقاني.
إن مناسبات الخير تأتي لتنبهنا إلى واسع العطاء والرحمة، ولتجذبنا "برفق" إلى طريق المسير إلى المولى العليّ، ولنتذوق حلاوة الطاعة بعد هجران، وسبحانه في غنى عن كل ذلك؛ لا يحتاج إلى عبد ولا يفتقر إلى مخلوق، بل يعيدنا إليه لأنفسنا لا لذاته، وصلاحنا نافع لنا، لا لَهُ جَلَّتْ ذاتُه.
أماراتُ الرحمة هذه تطرق الأذن بقول النبي: "لا يدخل النار إلا شقي"؛ إذ المرء في كل لحظة مشمول بالرحمة، وكل بليّة تعرض له، تطرح من سيئاته وتُرْبي له في حسناته، بل إن أبواب الجنة كلها تفتَّح بأيسر الأعمال، كالمداومة على ذكر بعد الوضوء، والمُلك في الجنة يزيد بركعات معدودات في اليوم والليلة، ونَبْت حدائقها يزيد أيضا بكلمات معدودات من الذكر، فكأن نداء "يا باغي الخير أقبل" ليس مقصورا على رمضان بل في كل وقت، وكأن الشقاوة ملازمة لمن غفل عن أيسر الأعمال التي يدخل بها الجنة.
ومما يتصل بهذه المعاني ولُقِّنّاه أيضا من مشايخنا، أن الإمام النووي عندما وضع كتابه "الأربعين النووية" أراد به أن يجعله كتابا لمعرفة الله، فبدأه بحديث إنما الأعمال بالنيات ليضبط توجّه القلب، وختمه بالحديث القدسي: "يا ابن آدم، إنك ما دعوتَني ورجوتَني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتَني غفرتُ لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتَني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تشركُ بي شيئا، لأتيتك بقُرابها مغفرة"، وهذا الحديث وُضِع في الختام ليستكمل المتدبِّرُ في نصوصه صور معرفة الله من كلام الله دون حاجب أو حاجز من أحد، وما يخبرنا به ربنا: أن كل ذنب مغفور مهما بلغت شقاوة العبد، ويؤكد ربنا على المعنى "غفرت لك على ما كان منك" فمهما ارتكبت من الآثام ومهما كنت مجرما في نظر الناس، فالرحيم يقول لك "غفرتُ.. ولا أبالي" فأي الأقوال أرجى للتصديق: قول نفسك أنه لن يغفر لعِظم الذنوب، أم قول من يملك أمر المغفرة بأنه سيغفر ولا يبالي لعِظَم الذنب؟
إن من أراد معرفة الله لن يجد أنسب من كلام الله في كتابه الكريم، أو فيما ألقاه في نفْس نبيّه، ثم لينظرْ في كلام سيد العارفين وخاتم المرسلين، ليعرف أن ربنا إذا ما أعطى أدهش في عطائه، وإذا أعرض العبد وجده يجذبه إليه بالنعيم تارة وبالابتلاء تارة، ليُطهّر العبد من الجفاء، وهو غني عن عبادة هذا أو ذاك، فيجذبنا إليه محبة منه لنا لا افتقارا منه إلينا سبحانه وتعالى، وعسى أن نكون ممن أحسن المسير إليه، فلقوا جزاء ذلك بالقرب في الدنيا والآخرة.
أضف تعليقك