بقلم: يوسف عيد
قال أبو البقاء الرنديِّ يومًا في رثاء الأندلس:
لِكُلِّ شَيءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ.. فَلَا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إِنْسَانُ
هِيَ الأَيَامُ كَمَا شَاهَدْتهَا دُوَلٌ.. مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزَمَانُ
وَهَذِهِ الدَّارُ لا تُبْقِي عَلَى أَحَدٍ.. وَلَا يَدُومُ عَلَى حَالٍ لَهَا شَانُ
وبهذه الكلمات ذُرفتْ العَبَراتُ تبكي خيبتَها وخسرانَها كُلَّ جميلٍ مَلَكَتْهُ يومًا، ودَّعتْ الأرواحُ أرضًا سكنتَها وعَمَرتْها وتأصَّلتْ فيها لتصبحَ منها لا يفرِّقها عنها إلا مَنْ انتزعها منها انتزاعًا، ولكنَّها كانتْ قَدْ ضَربتْ جذورَها عميقًا، فرَحَلتْ عن تلك الأرضِ حامِلةً عَبَقَ الذكرى، وشريطَ ذكرياتٍ لا يُنسى أبدًا، حَمَلَتْ مَعَها رائحة التراب المُبَلَّل بأولى قَطرَاتِ غيثٍ كان يسقيها أملًا وحياةً، حَمَلَتْ مَعَها فَسِيلةً وغِراسًا لتُزهرَ أَنْدَلُسًا حيثُما سَاقتْ خطواتِها الأقدار، لتعيشَ على حُلم العودة والرجوع، لتورِّث ذلك أبناءَها وأحفادَها جيلًا عن جيل، فسحرُ تلك الأرض ليس للنسيان أبدًا، إنَّه يسكنُ طيَّاتِ الذاكرة، ويجري في عروقها مجرى الدم.
دموعُ "صلاح" التي خَرج بها مُودِّعًا نهائيَّ دوري الأبطال تشبهُ كثيرًا دموعَ أولئك الذين خرجوا مُودِّعين الأَندَلُس، إنَّها دموعُ المَغلوبِ على أمره، دموعُ المشغوف بالانتصار، دموعُ ذلك الطفل الصغير الذي نشأ في قرية نجريج في محافظة الغربية في مصر، وفيها عَشِقَ كُرَةَ القدم، ولأجل حُلُمٍ راودَه في الوصول للعالميّة راح يقطعُ مسافاتٍ طويلة بُغيةَ تدريباتٍ ترفعُ من مستواه، ليلتحق بعد كَدٍّ وتعب بنادي "المقاولون العرب" أحدِ أندية الدوري المصريّ، ورغم صغر سنِّه يسافرُ وحده يوميًّا للقاهرة، بين بردٍ قارسٍ وحَرٍّ شديد مضى يُحقِّقُ طموحَه ليصل أخيرًا للاحتراف والعالمية، بعد أَنْ آمَنَ ومِنْ قَبْلُ والدُه بأنِّه إنْ أرادَ فلا بُدَّ أَنْ يَستجيب القَدَر.
ولكنَّ ذلك الفتى لَمْ يُشغَفْ إلا بما عَرَفَ وتربَّى عَلَيه، فيقضي إجازاتِه بين أهله وأصدقائه، وفي أحضان قريتِه حيثُ مسقطُ رأسه، لا في القصورِ الفارهة ولا الفنادق الفخمة، يُشاركهم أفراحهم وأتراحهم، مُساهمًا وداعِمًا لتصيرَ قريتُه لحالٍ أفضل. تربَّى على القرآن والصلاة، رَطِبُ اللِّسانِ، مُهذَّبٌ وهادئ، وقورٌ وعفويّ، صفاتٌ حسنة اجتمعتْ في شخصيِّته، وتمثَّلتْ في أفعاله وتفاعلاته مع كُلِّ ما يدور حولَه، فحقَّقَ الإنجاز تلوَ الإنجاز، ترجمةٌ عمليّة لعوامل النجاح ونظريّاته، آمنَ بنفسه، بهُويَّته، بما هو عليه، بحقيقته، ليبزغ نجمه حين أفِلتْ نجوم كثيرة من حوله في مصر.
حين ملأ اليأسُ قلوب الكثيرين، عَمَرَ قلبَه الإيمانُ بقدرته على النَّجاح، وحين عجزَ الكثيرون واستسلموا للواقع، قاتل هو وكافح ليصنعَ واقعه بنفسه، وحينَ جَحَدَ الكثيرون نِعَمَ الله، خرَّ هو ساجدًا له شاكرًا مع كل هدفٍ يُحرزه، وحينَ تساقط كثيرٌ من الدعاة إلى الله تحت وطأة فتن هذا العصر، وجد هو طريقه للدعوة بأنْ يعكس أخلاق المسلم وقدرته على صناعة التغيير ليأسر عقول الصغار والكبار في ليفربول فيتمنَّوا الإسلام دون أن يَنْبسَ هو ببنتِ شَفة، إنَّه "الكابتن رابح" الذي عرفناه في طفولتنا، ولكنَّه ليس كرتونًا بل حقيقة!
"محمد صلاح" أفضلُ من أولئك الذين قَضَوا حياتَهم يبكون ويتباكون على أَندلُسٍ ضاعت، وقُدسٍ مُحتلَّة عاجزين لا يفعلون إلا التذمُّر وندب حظِّهم، ولا أقول أنَّه الفارس المقدام الذي سيعيد لنا مجدًا غابرًا وزمنًا تليدًا، ولكنَّه أميرُ كثيرٍ من القلوب، شقَّ لها سبيلًا إليه بجهده وتعبه، لم يعترف بالعجز، لم يستسلم لحتمية السقوط، لم يلتفت وراءه إلا ليتذكر من أين جاء.
"محمد صلاح" قدَّم لنا نموذجًا ناضجًا عن حُلُمٍ يراودُ شابًّا عربيًّا مُسلمًا أحاله واقعًا وحقيقة، ليصل لمشارف الأندلس مُواجهًا ناديًا من أقوى الأندية في العالم، "صلاح" أراد أن ينتصرَ بأندلسه الخاصة وعلى طريقته التي يتقن، وقدْ أعدَّ لهذا اليوم واستعد، واضعًا كل اعتبارات النجاح نُصْبَ عينيه ليصلَ حيث هو، لا مُحرِّرًا ولا فاتِحًا كما يريد البعض تصوير الأمرِ ليطلقوا ألسنتهم فيه ناقمين ومنتقمين، بل تصوُّرًا مُبسَّطًا عنْ نجاحٍ عظيمٍ نتوق إليه جميعًا على مستوياتٍ عِدَّة.
"محمد صلاح" مزَّق صورةَ العربيِّ المُسلم الكسول، الذي يستجدي مساعدات المانحين ليعيشَ لا يُهمُّه إلا قوتُ يومِه، بصورةٍ مُشرِّفة حقًّا لعربيٍّ مُسلمٍ خطف الأضواء في مكان تُسلَّطُ فيه الأضواء في كُلِّ مكان، بصورة المُلهِم لمن هم عنه مختلفين دينًا وثقافة، بصورةٍ أخرجت الأحلام والتمنِّيات والشعارات من إطار التصوُّر لمسرح الحقيقة والواقع، "محمد صلاح" علَّمنا أنَّه لا يكفي أنْ نكون مُسلمين لاستحقاق النصر، بل بسواعدنا بجهدنا بالعمل الجاد الدؤوب، بتذييل العقبات، علَّمنا بأن النصر ليسَ معجزةً ستهبطُ من السماء يومًا كقطرات الغيث نتلقَّفها فرحين، بل من قلب المعاناة والألم من حيث اليأس والتعب، من حيثُ قيل أنَّ أُمَّةً انتهتْ إلى اللاشيء، "محمد صلاح" أحيا في نفوس المصريين والعرب فرحةً أخمدتها براكين الدكتاتوريات وأملًا أسَرَته يدُ البطش والجبروت، أحيا أحلامًا وآمالًا لِتُزهرَ من جديد.
خرجَ "محمد صلاح" مُصابًا باكيًا أم النادي الملكيّ القويّ، ليُعطيَنا درسًا حتى في هذه، بدموعه الغالية التي ذرفها، أنَّنا لسنا جاهزين بعد لنتصدَّر، ما زال أمامنا أشواطٌ طويلة، أنَّ الأملَ والإصرارَ وحدَهما لا يَكْفيان، بل إنَّنا نحتاج إلى أسباب القوة ووسائلها، خرج باكيًا فقد رأى الأندلس على مقربة منه لكنه خسرها كما خسرناها سابقا، أندلس انتصاره الذي كان يتوق إليه، ليرفعَ تلك الكأس الغالية، ليحقق الحُلُمَ النَّفيس، ولكنَّ "راموس" ذي الأصول الأندلسية وضعَ حدًّا لذلك تماما كما وضعَ أجداده حدًّا لحضارةٍ ازدهرتْ وتربَّعتْ على أرض الأندلس، تشابهٌ تصويريّ يدعوك لكي تتذكر ذلك المجد الغابر.
"محمد صلاح" جعلنا نشعرُ بالفخرِ بما نحنُ عليه أمام نادٍ من أقوى الأندية في العالم، فكيف الحال لو كان لدينا مشروع كمشروع محمد صلاح على كُلِّ المستويات؟ لا أستطيعُ التوقف عن تخيُّل ذلك، فحالةُ النجاح الفريدة خاصته، تدعوك لأن تطرقَ باب المنافسة والتفوُّق في أي مجالٍ كنت، تدعوكَ لأنْ تدعَمَ النَّاجح حينَ تعلُمُ تحديدًا أنَّه نالَ نجاحه بعرق جبينه ولم يستجدِ أحدًا، فإنْ لم تكن تريدُ الوقوفَ بجانب صلاح، فعلى الأقل احتفظ بانتقاصك وكراهيتك لأي نجاح لنفسك فقط، فلربَّما تخلَّص كثيرٌ من العرب والمسلمين من لعنة النقص تلك التي تطاردهم، ولربما أبصروا الحقيقة التي جاءت في كتاب الله سنَّةً ثابتةً لا تتبدَّل: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}، وليعلم الجميع أنَّ صلاح بكى لأنَّه استحقَّ وعملَ واجتهد، ولكن ما حال من يبكون ولم يفعلوا شيئًا لأمِّتهم أو حتى لأنفسهم، هكذا تفوَّق عليكم محمد صلاح.
* نقلا عن مدونات الجزيرة
أضف تعليقك