الأستاذ جمعة أمين
- مع عثمان بن عفان رضى الله عنه :
عن ثمامة بن حزن القشيرى قال : شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال : ائتوني بصاحبيكم اللذين ألَّباكم علىّ ؟
قال : فجئ بهما كأنهما جملان أو كأنهما حماران ، قال : فأشرف عليهم عثمان .
فقال : أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غبر بئر رومة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من يشترى بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة ) فاشتريتها من صلب مالي ، فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر : قالوا اللهم نعم .
فقال : أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من يشترى بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة ) فاشتريتها من صلب مالي ، وأنتم اليوم تمنعوني أن أصلى فيها ركعتين ؟ قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أنى جهزت جيش العسرة من مالي ؟ قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا ، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض قال : فركضه رجله فقال :( اسكن ثبير فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ) .
قالوا : اللهم نعم ، قال : الله أكبر شهدوا لي ورب الكعبة أنى شهيد ثلاثاً .
- مع صهيب بن سنان رضى الله عنه :
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر رضى الله عنه يقول صهيب : وكنت قد هممت بالخروج معه فصدني فتيان قريش .... وقالوا : أتيتنا صعلوكاً حقيراً ثم أصبت بين أظهرنا المال ، وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج أنت ومالك ؟ والله لا يكون ذلك ، فقال صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون أنتم سبيلي ؟ فقالوا : نعم ، فخلع لهم ماله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ربح صهيب ، ربح صهيب .. ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم { ومن الناس من يشر نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد } البقرة 2.7 ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبا يحي ربيع البيع ، وتلا عليه الآية .
فهذا موقف جليل لصهيب بن سنان رضى الله عنه حيث ضحى بماله وفدى به دينه ، وهو نموذج لعموم المهاجرين الذين تركوا أموالهم التي لا يمكن نقلها كالبيوت وبعض الأموال الأخرى التي غلبهم عليها الكفار ، كما تركوا مصالحهم التجارية حيث كان أهل مكة يتمتعون برحلتي الشتاء و الصيف لليمن و الشام ووفادة العرب على مكة ، تركوا ذلك ابتغاء مرضاة الله .
وهذا دليل على أن الكفار وأعداء الإسلام أصحاب مصالح وليسوا أصحاب مبادئ فهم ينظرون أولاً وقبل كل شئ إلى مصالحهم الخاصة من وقاية أنفسهم وحصولهم على أكبر قدر ممكن من متاع الدنيا ، أما النظر إلى المبادئ المقدسة عندهم فهو أمر ثانوي ، بخلاف المسلمين الذين يعتبرون الإسلام هو المطلب الأسمى و القضية الكبرى ، كما فعل صهيب وغيره من الصحابة رضى الله عنهم ، وهذا هو أحد أسرار انتصار المسلمين الساحق على الكفار رغم ضعف المسلمين الواضح من الناحية المادية .
فانظر إلى ذلك المهاجر الذي كان يترك أهله ، ويفارق أرضه في مكة ، ويفر بدينه مضحياً بكل ما يملك ، كان يجد أمامه صوراً أخرى من التضحيات ، كان يجد أبناء الإسلام من فتيان يثرب ينظرون وكلهم شوق إليه ، وحب له وسرور بمقدمه ، وما كان لهم سابق معرفة ولا قديم صلة ، وما ربطهم وشيجة من صهر أو عمومة ، ما دفعتهم إليه غاية أو منفعة ، وإنما هي عقيدة الإسلام إلى جعلهم يضحون بكل ما يملكون ، لدرجة أنهم يعدونه جزءاً من أنفسهم ، وشقيقاً لأرواحهم ، وما هو إلا أن يصل إلى المسجد حي يلف حوله الغر الميامين من الأوس و الخزرج ، كلهم يدعوه إلى أبيه ويؤثره على نفسه ويفديه بروحه وعياله ، ويتشبث بمطلبه هذا حي يؤول الأمر إلى الاقتراع ، فلقد روى الإمام البخاري ما معناه :( ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة ) وحي خلَّد القرآن للأنصار ذلك الفضل أبد الدهر ، فما زال يبدو غرة مشرقة في جبين السنين في قول الله تبارك وتعالى { و الذين بوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أووا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } الحشر 9
إن هؤلاء الرجال لا يبخلون على دعوهم يوماً من الأيام بقوت أولادهم ، وعصارة دمائهم ، وثمن ضرورياتهم و الفائض من نفقاتهم ، وأنهم يوم أن حملوا هذا العبء عرفوا جيداً أنها دعوة لا رضى بأقل من الدم و المال ، فخرجوا عن ذلك كله ، وفقهوا معنى قوله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } التوبة 111 فقبلوا البيع وقدموا البضاعة عن رضى وطيب نفس معتقدين أن الفضل كله لله فاستغنوا بما في أيديهم عما في أيدي الناس ، منحهم الله البركة في القليل فأنتج الكثير ... وهكذا يجب أن يكون حال الدعاة الصادقين .
ذلك لأن هذه الدعوة لا تنتصر إلا بالجهاد و التضحية ، والبذل وتقديم النفس و المال ، ولذلك قدم هؤلاء الرجال النفوس وبذلوا الأرواح ، وجاهدوا في الله حق جهاده ، وسمعوا هاتف الرحمن يهتف بهم { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } التوبة 24 فأصاخوا للنذير ، وخرجوا عن كل شئ طيبة بذلك نفوسهم ، راضية قلوبهم مستبشرين ببيعهم الذي بايعوا الله به .
يعانق أحدهم الموت وهو يهتف : ركضاً إلى الله بغير زاد ، ويبذل أحدهم المال كله قائلاً : أبقيت لعيالي الله ورسوله ، ويخطر أحدهم و السيف على عنقه :
ولست أبالي حين أقتل مسلما ً
على أي جنب كان في الله مصرعي
كذلك كانوا : صدق جهاد ، وعظيم تضحية ، وكبير بذل ، وكذلك يجب علينا أن نكون مثلهم .
- مع عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه :
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( خيركم خيركم لأهلي من بعدي )
قال : فباع عبد الرحمن بن عوف حديقة بأربعمائة ألف ، فقسمها في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن أم بكر بنت مسور أن عبد الرحمن بن عوف باع أرضاً له من عثمان بأربعين ألف دينار ، فقسم ذلك في فقراء بنى زهرة ، وفي ذي الحاجات من الناس ، وفي أمهات المؤمنين .
قال المسور : فأتيت عائشة بنصيبها من ذلك فقالت : من أرسل بهذا ؟
قلت : عبد الرحمن بن عوف ، فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون ) سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة .
- مع طلحة بن عبيد الله رضى الله عنه :
سأله أحدهم وتقرب إليه برحم فأعطاه ثلاثمائة ألف .
وعن موسى عن أبيه أنه أتاه مال من حضرموت سبعمائة ألف ، فبات ليلته يتململ ، فقالت له زوجته : مالك ؟ قال : تفركت منذ الليلة فقلت : ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته ؟ قلت : فأين أنت من بعض أخلائك فإذا أصبحت فادع بجفان وقصاع فقسمه فقال لها : رحمك الله إنك موفقة بنت موفق وهى أم كلثوم بنت الصديق ، فلما أصبح دعا بجفان فقسمها بين المهاجرين والأنصار ، فبعث إلى على منها بجفنة .
فقالت له زوجته : أبا محمد أما كان لنا في هذا المال من نصيب ؟ قال : فأين كنت منذ اليوم ؟ فشأنك ما بقى ، قال : فكان صرة فيها نحو ألف درهم .
وعن علىّ بن زيد قال : جاء أعرابي إلى طلحة يسأله ، فتقرب إليه برحم فقال : إن هذه لرحم ما سألني بها أحد قبلك ، إن لي أرضاً قد أعطاني بها عثمان ثلاثمائة ألف فاقبضها ، وإن شئت بعتها من عثمان ، ودفعت إليك الثمن فقال : الثمن ، فأعطاه .
إنه طلحة الخير ، وطلحة الفياض ، وطلحة الجود .
- مع أبى طلحة الأنصاري :
عن أنس ابن مالك رضى الله عنه قال : ( كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس : فلما أنزلت هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } آل عمران 92 ] . قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه )) .
- مع أبى الدحداح الأنصاري رضى الله عنه :
قال الحافظ : روى أحمد والبغوى والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلاً قال : يا رسول الله : إن لفلان نخلة وأنا أقيم حائطي بها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ((أعطه إياها بنخلة في الجنة )) فأبى قال فأتاه أبو الدحداح فقال : بعني نخلتك بحائطي قال / ففعل فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ابتعت النخلة بحائطي فاجعلها له فقد أعطيتكها .
فقال : ((كم من عذق وداح لأبى الدحداح في الجنة )) قالها مراراً قال : فأتى امرأته فقال : يا أم الدحداح اخرجي من الحائط فإني قد بعته بنخلة في الجنة فقال : ربح البيع أو كلمة تشبهها .
فانظر إلى صدق الإيمان كيف يدفع إلى البذل والنفقة في سبيل الله عز وجل كما قال تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } الحجرات 15 .
- مع عائشة رضى الله عنها :
عن أم ذرة وكانت تغشى عائشة قالت : بعث إليها الزبير بمال في غرارتين . قالت : أراه ثمانين ومائة ألف فدعت بطبق وهى يومئذ صائمه فجلس تقسمه بين الناس فأمست وما عندها من ذلك درهم فلما أمست قالت : يا جارية هلمي فطرى فجاءتها بخبز وزيت فقالت لها أم ذرة أما استطعت مما قسمت اليوم أن نشترى لنا بدرهم لحماً نفطر عليه ؟ فقالت لها : لا تعنفيني لو كنت ذكرتينى لفعلت
وعن عروة قال : لقد رأيت عائشة تقسم سبعين ألفا وهى ترفع درعها .
فرحم الله أم المؤمنين ورضى الله عنها وقد امتلأ قلبها وبالإيمان ومحبة الرحمن حتى نسيت إلى جنب ذلك نفسها وهى صائمة والعبد إذا أكثر من طاعة الرحمن تكون سعادته في الطاعة والإنفاق والصيام والقيام فليست سعادتهم في الشراب والطعام وهكذا المؤمن تحبب إليه الطاعات والقربات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( وجعلت قرة عيني في الصلاة )) وكان يواصل وينهى عن الوصال فيقال له : إنك تواصل فيقول : (( إني لست كهيئتكم إني أبيت لي معكم يطعمني وساق يسقيني )) .
* مع أبى عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل رضى الله عنهما :
روى مالك الدار قال : إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة فقال للغلام : أذهب بها إلى أبى عبيدة ثم تله ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع .
قال : فذهب بها الغلام فقال : يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك قال : وصله الله ورحمه ثم قال : تعالى يا جارية : اذهبي بهذه السبعة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها .
فرجع الغلام إلى عمر وأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال : أذهب بها إلى معاذ بن جبل وتله في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع .
فذهب بها إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك فقال : رحمه الله ووصله : تعالى يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا واذهبي إلى بيت فلان بكذا .
فاطلعت امرأة معاذ فقالت : نحن والله مساكين فأعطنا ولم يتبق من الحرقة إلا ديناران فدحا بهما إليها فرجع الغلام إلى عمر فأخبره بذلك فسر بذلك وقال إنهم إخوة بعضهم من بعض .
- مع أبى أمامة رضى الله عنه
عن عبد الرحمن بن يريد بن جابر قال : حدثتني مولاة أبي أمامة قالت : كان أبو أمامة يحب الصدقة ويجمع لها وما يرد سائلاً ولو ببصلة أو بتمرة أو بشيء مما يؤكل .
فأتاه سائل ذات يوم وقد افتقر من ذلك كله وما عنده إلا ثلاثة دنانير فسأله فأعطاه ديناراً ثم أتاه سائل فأعطاه ديناراً ثم أتاه سائل فأعطاه ديناراً .
قالت : فغضبت وقلت : لم تترك لنا شيئاً .
قالت : فوضع رأسه للقائلة فلما نودي للعصر أيقظته فتوضأ وراح إلى المسجد فرفقت عليه صائماً فتقرضت وجعلت له عشاء ً وأسرجت له سراجاً وجئت إلى فراشه لأمهد له فإذا بذهب فعددتها فإذا ثلائمائة دينار قلت : ما صنع الذي صنع إلا وقد وثق بما خلف فأقبل بعد العشاء فلما رأي المائدة ورأي السراج تبسم وقال : هذا خير من عنده .
قالت : قمت على رأسه حتى تعشى فقلت : يرحمك الله خلفت هذه النفقة سبيل ولم تخبرني فأرفعها قال : وأي نفقه؟! ما خلفت شيئاً .
قالت : فرفعت الفراش فلما أن رآه فرج واشتد عجبه .
قالت : فقمت فقطعت زنارى وأسلمت .
قال ابن جابر : فأدركتها في مسجد حمص وهى تعلم النساء القرآن والسنن والفرائض وتفقههن في الدين .
إن صحت الرواية فهي كرامة لأبى أمامة رضى الله عنه ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وهى كثيرة في الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح رضى الله عنه فمن ذلك قوله عز وجل { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله يرزق من يشاء بغير حساب } آل عمران 37 )
وكذا قصة أصحاب الكهف وفي الصحيح قصة قصعة الصديق رضى الله عنه وكان حبيب ابن عدى يؤتى بقطف من العنف وهو أسير بمكة وما بمكة ثمرة ومن أولى بالكرامة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم أجمعين .
- مع عبد الله بن عمر :
عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال : أعطى ابن جعفر عبد الله بن عمر بنافع عشرة آلاف أو ألف دينار فدخل عبد الله على صفية فقال لها : إنه أعطاني ابن جعفر بنافع عشرة آلف أو ألف دينار فقالت : يا أبا عبد الرحمن فما تنتظر أن تبيعه ؟ فقال : فهلاً ما هو خير من ذلك هو لوجه الله قال أبى : فكان يخيل إلى أن عبد الله ابن عمر كان ينوى قول الله عز وجل { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } آل عمران 92 .
وعن عبيد الله عن نافع قال : ما أعجب ابن عمر شئ من ماله إلا قدمه بينا هو يسير على ناقته إذ أعجبته فقال : إخ إخ فأناخها وقال : يا نافع حط عنها الرحل فجللها وقلدها وجعلها في بدنه .
وعن محمد بن زيد عن أبيه أن ابن عمر كاتب غلاماً له بأربعين ألفاً فخرج إلى الكوفة يعمل على حمر له حتى أدى خمسة عشر ألفاً فجاءه إنسان فقال : أمجنون أنت ؟ أنت هاهنا تعذب نفسك وابن عمر يشترى الرقيق يميناً وشمالاً ثم يعتقهم ارجع إليه فقل : عجزت فجاء إليه بصحيفة فقال : يا أبا عبد الرحمن قد عجزت وهذه صحيفتي فامحها فقال : لا ولكن امحها أنت إن شئت فمحاها ففاضت عينا عبد الله وقال : اذهب أنت حر قال : أصلحك الله أحسن إلى ابني قال : هما حران قال : أصلحك الله أحسن إلى أمي ولدى قال هما حرتان .
وعن ابن عمر قال : خطرت هذه الآية ببالي { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } آل عمران: 92 ]. ففكرت فيما أعطاني الله عز وجل فما وجدت شيئاً أحب إلى من جاريتي رميثة فقلت : هي حرة لوجه الله فلولا أنى لا أعود في شئ جعلته لله لنكحتها فأنحكها نافعاً فهي أم ولده .
مع شعبة بن الحجاج رضى الله عنه :
عن النضر بن شميل قال : ما رأيت أرحم لمسكين من شعبة إذا رأي المسكين لا يزال ينظر إليه حتى يغيب عن وجهه .
وقال يحيى القطان : كان شعبة من أرق الناس يعطى السائل ما أمكنه .
وعن أبى داود الطيالسى قال : كنا عند شعبة فجاء سليمان بن المغيرة يبكى فقال له شعبة : ما يبكيك يا أبا سعيد ؟ قال : مات حماري وذهبت منى الجمعة وذهبت حوائجي قال : فبكم أخذته : قال بثلاثة دنانير قال : فعندي ثلاثة دنانير والله ما أملك غيرها يا غلام هات تلك الصرة فإذا فيها ثلاثة دنانير فدفعها إليه وقال : اشتر بها حماراً ولا تبك .
وعن أبى داود قال : كنا عند شعبة نكتب ما يملى فسأل سائل فقال شعبة : تصدقوا فلم يتصدق أحد فقال : تصدقوا فإن أبا إسحاق حدثني عن عبد الله بن معقل عن عدى بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اتقوا النار ولو بشق تمرة )) قال : فلم يتصدق أحد فقال : فإن عمرو بن مرة حدثني عن خيثمة عن عدى بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة )) . فلم يتصدق أحد فقال : تصدقوا فإن محلاً الضبي حدثني عن عدى بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((استتروا من النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة )) فلم يتصدق أحد فقال : قوموا عنى فوا الله لا حدثتكم ثلاثة أشهر ثم دخل منزله فأخرج عجيناً فأعطاه السائل فقال : خذ هذا فإنه طعامنا اليوم .
وعن سليمان بن حرب قال : لو نظرت إلى ثياب شعبة لم تكن تساوى عشرة دراهم إزاره ورداؤه وقميصه وكان شيخاً كثير الصدقة .
فمع أنه رحمه الله كان فقيراً وكان جلده قد لصق على عظمه ليس بينهما لحم وكان إذا حك جلده تساقط التراب إلا أنه سخي النفس كريم الطبع وكم من أناس يملكون الأموال الضخمة الفخمة ومع ذلك جبلوا على البخل والشح فلا ينفقون إلا على شهوات نفوسهم ولا يتصدقون عليها { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغنى وأنتم الفقراء } محمد : 38 ].
* مع الأعمى في قصة الثلاثة من بنى إسرائيل :
عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(( إن ثلاثة من بنى إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال :أي شئ أحب إليك ؟ قال : لون حسن و جلد حسن قد قذرنى الناس قال : فمسه فذهب عنه فأعطى لونا حسنا وجلداً حسناً .
فقال : أي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل أو قال : البقر هو شك في ذلك أن الأبرص والأقرع قال أحدهما : الإبل وقال الآخر : البقر فأعطى ناقة عشراء فقال : يبارك لك فيها .
وأتى الأقرع فقال : أي شئ أحب إليك : قال : شعر حسن ويذهب عنى هذا قد قذرنى الناس قال: فمسحه فذهب وأعطى شعراً حسناً قال فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر قال : فأعطاه بقراً حاملاً وقال : يبارك لك فيها .
وأتى الأعمى فقال : أي شئ أحب إليك قال : يرد الله إلى بصري فأبصر به الناس قال : فمسحه فرد الله إليه بصره قال فأي المال أحب إليك ؟ قال : الغنم فأعطاه شاة والداً .
فأنتج هذان وولد هذا فكان لهذا من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من غنم .
ثم أنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال . رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفرة فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلغ عليه في سفره فقال له إن الحقوق كثرة فقال له كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فأعطاك الله؟ فقال لقد ورثت لكبار عن كابر .
فقال : إني كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت
وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا فرد عليه مثل ما رد عليه هذا .
فقال : إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت .
وأتى الأعمى في صورته فقال : رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت به الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فرد الله علىّ بصري، وفقيراً فقد أغناني فخذ ما شئت ، فوا الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال : أمسك مالك ، فإنما ابتليتم فقد رضى الله عنك ، وسخط على صاحبيك ) .
قال الدكتور عمر الأشقر : أما الأعمى فقد كان ذا نفس صافية عامرة بالإيمان و التقوى ، فذكره بصورته وحاله التي كان عليها قبل أن يرد الله عليه بصره ، ويعطيه ما أعطاه من المال ، وكشف للسائل حقيقة ما كان عليه من قبل :( قد كنت أعمى فرد الله علىّ بصري وفقيراً فقد أغناني ) .
ولم يجد له بشاة واحدة ، إنما ترك له الخيار أن يأخذ ما يشاء ، ويترك ما يشاء ، وقال للسائل :( فخذ ما شئت فوا الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله ) عند ذلك كشف الملك له عن حقيقته وقال له :( أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضى الله عنك ، وسخط عن صاحبيك ) إن هؤلاء الثلاثة يمثلون أنموذجين مختلفين ، أنموذج الشاكر لأنعم الله ، و الكافر بها وبالشكر تدوم النعم ، وبالكفر يكون زوالها وبوارها .
- مع عبد الله بن جعفر رضى الله عنه :
عن هشام ابن عروة عن أبيه قال : كتب رجل إلى عبد الله بن جعفر رقعة فجعلها في ثنى وسادته التي يتكئ عليها فقلب عبد الله الوسادة فبصر بالرقعة فقرأها وردها في موضعها وجعل مكانها كيساً فيه خمسة آلاف دينار ، فجاء الرجل فدخل عليه فقال : اقلب الرقعة فانظر تحتها فخذه ، فأخذ الرجل الكيس فخرج فأنشأ يقول :
زاد معروفك عرفاً عظيماً
أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته
وهو عند الناس مشهور كبير
وعن الشعبي قال : كان لعبد الله بن جعفر على رجل من أهل المدينة خمسون ألفا فاستعان عليها بعبيد الله بن عباس في ذلك فقال : قد حططت عنه شطرها وأخزته بالشطر الآخر إلى ميسرة قال : فجزاه عبيد الله خيراً وانصرف فأتبعه ابن جعفر رسولاً: إني قد طيبت له النصف الآخر .
عن الداودى قال : قيل لمعاوية بن عبد الله بن جعفر : ما بلغ من كرم عبد الله بن جعفر ؟ قال : كان ليس له مال دون الناس هو والناس في ماله شركاء من سأله شيئاً أعطاه ومن استمنحه شيئاً منحه إياه لا يرى أن يفتقر فيقتصر ولا يرى أنه يحتاج فيدخر .
* مع عبد الله بن المبارك رضى الله عنه :
قال محمد بن عيسى : كان المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس وكان ينزل الرقة في خان فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث فقدم عبد الله مرة فلم يره فخرج في النفير مستعجلاً فلما رجع سأل عن الشاب فقيل له : محبوس على عشرة آلاف درهم فاستدل على الغريم ووزن له عشرة آلاف وحلفه ألا يخبر أحداً ما عاش فأخرج الرجل وسرى ابن المبارك فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة فقال له : يا فتى أين كنت ؟ لم أرك قال : يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين . قال : وكيف خلصت ؟ قال : جاء رجل فقضى ديني ولم أدر قال : فاحمد الله ولم يعلم الرجل إلا بعد موت ابن المبارك .
أضف تعليقك