بقلم: ساري عرابي
(1)
تسعى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة لكسر معادلة يحرص الاحتلال الإسرائيلي على تكريسها، وكثيرا ما يبدو الأمر وكأنّه نجح في ذلك. باختصار، يريد الاحتلال الإسرائيلي تحويل سلاح المقاومة في غزّة إلى عبء على المقاومة نفسها، وعلى جماهير الناس بطبيعة الاحتلال.
يمكن القول إن أزمة المقاومة الفلسطينية قديمة وعميقة، على الأقل منذ توقيع اتفاقية أوسلو، فمحض وجود سلطة محلية لم يجرّد الفلسطينيين من الكثير من أدوات النضال التي احترفوها في الانتفاضة الأولى فحسب، ولا هي (أي السلطة المحلية) تكتفي بالتحول إلى حاجز محلي؛ من جهة يمنع احتكاك الجماهير بالعدو، ومن جهة أخرى يعمل على تحييد الجماهير عن دورهم الطبيعي ومسؤوليتهم التاريخية في التصدّي للعدوّ، ولكنّها فوق ذلك تتحول إلى مكتسب هو في حقيقته العقبة الكبرى أمام المقاومة.
بكلمة أخرى، حينما تكون ثمة سلطة في ظلّ الاحتلال، ناشئة عن اتفاقات مع الاحتلال، فإنّ معادلة الدمار والبناء تكون معقدة ومكلفة للغاية، والأكثر سوءا من ذلك حينما ترتبط السلطة بسلسلة اتفاقات، وتقبع في عمق جملة ظروف وملابسات، تجعلها عاجزة تماما عن التصدي للعدوّ.
هكذا بدأت أزمة المقاومة الفلسطينية مع الدخول السلطة الفلسطينية، ولاعتبارات تاريخية، سعت قيادة السلطة في ظلّ الرئيس الراحل ياسر عرفات للتحوير في هذا الواقع، وهو ما أنتج الانتفاضة الثانية التي قاتلت فيها فصائل المقاومة إلى جانب قطاعات من السلطة وحركة فتح.
بسبب الواقع السلطوي المحلّي، فإن الاحتلال تغطّى بهذا الواقع السلطوي أثناء الانتفاضة الثانية، أيّ تذرع بوجود سلطة محلّية للفلسطينيين على أرض لا يدخلها الاحتلال؛ تدفع الجماهير للاصطدام به على الحواجز، في ذلك الوقت وسّع الاحتلال من دائرة بطشه، فصار يقتل عشرات المدنيين يوميّا على الحواجز، وهم بالكاد يحمل بعضهم الحجارة على أكبر تقدير. هذا الأمر حوّل تلك الانتفاضة، إلى انتفاضة مسلحة.
اليوم يتعامل الاحتلال مع مسيرات العودة في غزّة على أساس من النظرية نفسها مع تعديلات أساسية تناسب الواقع القائم الآن في قطاع غزّة، فاستهدف الاحتلال الجماهير العزّل في مسيرات العودة بقوّة هائلة. لكن الاحتلال، الذي لا يملك أي مبرر أخلاقي أو أي مسوغ قانوني لجرائمه الشنيعة، سيستخدم ذات الحجّة، وهي وجود سلطة مسلّحة تحكم أرضا فلسطينية هو لا يدخلها وإن كان يحاصرها. هذه السلطة، بحسب دعاية الاحتلال، هي التي تدفع الجماهير في مسيرات العودة، وبسبب القوّة الهائلة التي يواجه بها الاحتلال الجماهير العزلاء، وبسبب وجود فصائل مقاومة مسلحة، كان دائما ثمّة توقع باشتعال المواجهة الواسعة في أيّ لحظة.
تصاعدت المواجهة المسلحة أخيرا، حينما استهدفت مدفعية الاحتلال موقعا لحركة الجهاد الإسلامي، وقتلت عنصرين من الحركة، فردّت الأخيرة بقذائف الهاون والصواريخ محليّة الصنع، مستهدفة مستوطنات ما يسميه الاحتلال "غلاف غزّة". وبداهة، فإنّ ردّ الجهاد الإسلامي لا يمكن أن يأتي دون تفاهم مع حركة حماس، السلطة الفعلية في قطاع غزّة، والتي استهدف الاحتلال كذلك بعض مقرّات جناحها المسلح بالقصف. هذا التصعيد قابل جدّا للاحتواء، وقابل في الوقت نفسه للاتساع، ومن المرجّح أنّ أيّا من الطرفين ليس معنيّا باتساع المواجهة، وإنما هو صراع على حقائق الواقع القائم ما بين تكريسها أو التعديل فيها.
(2)
من المفارقات أن حضور المقاومة الفلسطينية اليوم في قطاع غزّة، ناشئ عن تلك اللحظة التي حاول فيها ياسر عرفات التعديل على الواقع الذي تحقق بوجود سلطته الفلسطينية.. أسفرت الانتفاضة الثانية عن إعادة اجتياح لمناطق (أ) في الضفة الغربية، وتعظيم للقدرات الأمنية للاحتلال في الضفة الغربية كذلك، مع تفكيك بنى فصائل المقاومة فيها بسبب عملية الاستنزاف الأمني المكثف التي مارسها الاحتلال عليها هناك، بينما أسفرت في غزّة عن تعاظم لقوة المقاومة وانسحاب للاحتلال من مستوطنات القطاع.
بصرف النظر عن الأسباب التي دفعت الاحتلال إلى هذا التباين في تعامله مع كل من غزة والضفة، فإنّ قوّة المقاومة في غزة نشأت عن تلك اللحظة المركبة، ومن ثم، وحينما انحسرت الانتفاضة الثانية، لم يكن هناك أي حديث فلسطيني وطني حول السلطة بما هي عقبة نضالية، وإنما تحول النقاش حول ضرورة مشاركة حركة حماس في الانتخابات التشريعية، تحت شعار "شركاء في الدم شركاء في القرار".
على أي حال، يمكن القول إن السلطة ليست هي السبيل الوحيد لتجسيد الشراكة في القرار، لا سيما وهي نقيض المقاومة، لكن الأمر ليس بهذه البساطة بالنظر إلى استمرار وجود السلطة رغم الانتفاضة الثانية، واستمرار إمساكها بالمفاتيح الفلسطينية من جهة الطرف الفلسطيني، وهكذا لم يكن الأمر قرارا متعلقا بالإرادة الحمساوية وحدها، وإنما بالتفاهمات الفلسطينية. ويضاف إلى ذلك أن حماس لم تكن أبدا في وارد التخلّي عن مكتسباتها في قطاع غزّة التي تحققت بفعل الانتفاضة الثانية، ولا في وارد السماح بالعودة إلى الوراء حينما كانت مقموعة وأشبه بالحركة المحظورة.
دخلت حماس الانتخابات وفازت وشكلت حكومة، سرعان ما اقتصرت على قطاع غزّة بعد الانقسام، لتتفرد السلطة بالضفة الغربية، وهكذا ارتبطت معادلة المقاومة بمعادلة السلطة، بشكل مركب وشديد التعقيد. فسياسات السلطة في الضفة اشتغلت على تفكيك الحركة الوطنية وصرف الجماهير عن مسؤوليتها التاريخية؛ الأمر الذي بدا وكأن المقاومة قد انحصرت في غزّة، وهو ما عظّم من تبيان الظروف ما بين الضفة وغزة، ومن ناحية أخرى أصبحت حماس قوّة معيلة لما يقارب من مليوني إنسان، وبالتالي دخلت في معادلة الدمار والبناء المعقدة.
في هذه الظروف أراد الاحتلال تجريد المقاومة من طابعها الهجومي والاستنزافي، فالمقاومة عملية استنزاف مستمرة للعدو، فهي وإن كانت في معناها العام عملية استراتيجية لدفع العدوان وتخليق الظروف المواتية للتحرير، فإنها في فاعليتها وتكتيكاتها وممارستها؛ عملية هجوم مستمر يهدف إلى استنزاف العدو.
بمعنى أن الاحتلال أراد تحويل سلاح المقاومة إلى سلاح دفاعي، مستغلا ظروف حماس وظروف قطاع غزة، وفي مرحلة لاحقة أراد تجريد سلاح المقاومة من طابعه الدفاعي، وتحويله إلى عبء خالص، مستفيدا من حالة الحصار، ومن الظرف المباين في الضفة الغربية، ومن كون حماس سلطة أمر واقع تحرص على الحفاظ على هذا المكتسب. وبهذا شنّ الاحتلال عدّة مرّات هجمات مسلحة على غزّة، لا لإحراز أهداف أمنية فحسب، بل ولإحراز أهداف سياسية، مفادها أن يده هي العليا، وأنه يمكنه أن يضرب في كل وقت دون أن ترد المقاومة، وبالتالي يعيد تقديم سلاح المقاومة على أنه عبء، أو مكتسب ضيق، لا يستخدم ضد الاحتلال ولكنه يستجلب الحصار وتجويع الناس!
في المقابل، تسعى المقاومة لكسر المعادلة التي يحرص الاحتلال على فرضها، وهكذا تأتي ردودها بين فترة وأخرى، وبالتالي فهي ردود سياسية، أكثر مما هي ردود عسكرية أمنية، فغايتها كسر معادلة الاحتلال، لكن هذه المحاولة على أهميتها، بالإضافة للمساعي الحيوية التي تنظمها المقاومة لاستعادة مكانتها ومكانة القضية الفلسطينية وكسر الحصار، فإنّ ذلك كله لا يحل بعد معضلة ولا أزمة المقاومة الفلسطينية، بالإضافة إلى أن أصل وظيفة المقاومة هي السعي في سبيل التحرير، لا معالجة المشاكل الناجمة عن هذا السعي الأصلي.
لكن معالجة المشاكل الناجمة عن وجود المقاومة أو عن ممارستها ضرورية لتعزيز صمود الناس؛ دون أن يعني هذا أن تتحول هذه المعالجة إلى الغاية الرئيسة. وضمن الظروف التي سبق بيان جانب منها، انحصرت المقاومة مؤسسيّا في غزّة، وانحسرت عن الضفة بطابعها المؤسسي، وبطابعها الجماهيري الشامل، وإن أخذت تستعيد ذاتها في الضفة، بوتيرة محدودة منذ منتصف العام 2014، وهذا التباين إلى جانب الحصار المطبق؛ يُشغل المقاومة في غزّة في غير الغاية الرئيسة، أو في تخصيص القسم الأكبر من جهدها لفك الحصار، وهذا يبدو في بعض منه مفهوما بالنظر إلى تحمّل قطاع غزّة العبء الأوحد في القيام بواجب المقاومة، على الأقل في طابعها المؤسسي وفي حجها وكثافتها.
تحويل الفلسطينيين إلى جزر معزولة، في كل جزيرة منها قضية مختلفة خاصة بها، هو أمر بالغ الخطورة، وقد ناضل الفلسطينيون لتوحيد هويتهم الوطنية وأهدافهم، وهذا يعيد السؤال على بقية الجغرافيات الفلسطينية وعلى بقية أطراف الحركة الوطنية، فالخروج الوحيد من أزمتنا يكون في تصحيح المسار الذي بدأ مع السلطة، وفي استعادة الروح الكفاحية للضفة الغربية، وفي إعادة طرح السؤال على دور الشتات الفلسطيني.
أضف تعليقك