بقلم: محمد إلهامي
عملت السينما والدراما المصرية لعقود طويلة على تكوين صورة نمطية للمرأة المصرية، حتى أن البعض صار يرى مصر ونساءها كلها تُخْتَزَل في شارع الهرم سيئ السمعة، وهي الصورة التي يؤكد المصريون أنفسهم على أنها زائفة ولا تعبر عنهم، وأن تلك الشريحة التي تضخمها السينما والدراما لا تمثل شيئا من النساء المصريات اللاتي يعانين ويكافحن ضمن جموع المصريين. من بين النساء جميعا تبرز قصة سيدة واحدة تُخْتَزَل فيها قصة مصر في الحقبة العسكرية.. أمل عبد الفتاح إسماعيل!
سيدة في الخامسة والخمسين من عمرها، تفتحت عينها على الحياة في اللحظة التي كان والدها يُعلق على المشنقة الناصرية عام 1966، إذ كان والدها عبد الفتاح إسماعيل ثاني ثلاثة أُعْدِموا في خبر هزَّ العالم الإسلامي وقتها، ذلك أن رفيقه في الشنق كانا: المفكر الإسلامي المعروف سيد قطب والشيخ ويوسف هواش! غطَّت شهرة قطب على رفيقيه عند جموع الناس، لكن ابنة السنوات الثلاث حينئذ كانت تتذكر أباها أكثر من أي وقت آخر. ما إن بلغت هذه الفتاة سن الشباب حتى كان الحكم العسكري يُعِدَّ لها محنة أخرى، إذ جرى اعتقالها في عصر السادات كذلك، في خريفه الذي طال رموز مصر وشبابها، ولقد كانت هي رقما من بين المشاهير فلم يكد يلتفت إليها أحد.
وفي عصر السيسي قرر النظام العسكري استكمال مهمته مع الفتاة التي صارت سيدة، فمن بعد وقوع الانقلاب العسكري عام 2013 جرى اعتقال شقيقها نجيب عبد الفتاح إسماعيل (أكتوبر 2014) واتهم بأنه تابع لتنظيم الدولة الإسلامية، وبعدها اعتقل ابنها حنظلة أحمد الماحي وصار نزيل السجون المصرية، ثم لم تنقض شهور أخرى حتى اختفى ابنها الثاني المثنى أحمد الماحي قسريا بتاريخ 23 إبريل 2016 ولا يزال مجهول المصير حتى لحظة إعداد هذا التقرير. لم يتوقف الأمر هنا، فبعدها بعام واحد اختفى ابنها الثالث سهيل أحمد الماحي، وبعد أسبوعين وبالتحديد في 15 يوليو 2017 عُرِف مصيره، إذ أعلنت الأجهزة المصرية عن تصفيته ضمن خلية اتهمتهم بالانتماء لحركة حسم. وبعد أقل من عام آخر اختفى ابنها الرابع مصعب، وهو أكبر أبنائها، بتاريخ 2 مايو 2018، ولم يمض يوم واحد حتى اختفت هي نفسها قسريا بتاريخ 3 مايو 2018 ليظل مصيرهما مجهولا حتى هذه اللحظة.
قبل اثنتين وستين سنة كان عبد الفتاح إسماعيل يُشنق بحكم أصدرته محكمة عسكرية برئاسة اللواء عبد الفتاح الدجوي، وهو العسكري الذي حكم قطاع غزة لما كان تابعا للإدارة المصرية وكان بحكم منصبه مسؤولا عن اعتقال المقاومين للاحتلال الإسرائيلي في سجن غزة المركزي، ولما وقع عدوان 1956 سلَّم نفسه وقطاع غزة لقوات الاحتلال الإسرائيلي في مشهد تحتفظ به الذاكرة التاريخية كواحد من أقسى مشاهد التاريخ العربي. وبدلا من أن يُحاكَم بتهمة التقصير العسكري والاستسلام للعدو عاد فكان قاضيا -دون أن يحمل مؤهلا في القانون- ليصدر أحكامه بالشنق على سيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل ويوسف هواش.
لم يبق من أسرة أمل عبد الفتاح إسماعيل إلا ولدٌ واحد، تلاحقه السلطات المصرية أيضا التي فيما يبدو قررت إبادة هذه العائلة لتكتمل مسيرة السيدة التي ولدت مع فجر الحكم العسكري ولا تزال منذ هذه اللحظة تشهد المعاناة المستمرة. تصلح أمل عبد الفتاح إسماعيل أن تكون رمزا لمصر كلها تحت حكم الطبقة العسكرية، فمصر التي حكمها العسكر وهي الأولى عربيا وفي طليعة الدول النامية شرقيا، لا تزال تتآكل وتتقزم حدودها ومكانتها وسمعتها، حتى يبدو كأنها تشهد فصولها الأخيرة مع حكم عبد الفتاح السيسي.
بقي ولدٌ مطارد واحد لأمل عبد الفتاح إسماعيل، كما بقل أملٌ واحد لمصر كلها.. فهل يغلب الأملُ العسكر أم سيغلب العسكر الأمل.. أمل مصر، وأمل عبد الفتاح إسماعيل. إذا كنت قد وصلت إلى هذا السطر، فأسألك بالله ألا تنسى هذه السيدة وأبناءها من دعوة مخلصة بظهر الغيب، عسى الله أن يفرج عنها وعن أبنائها، وأن يفرج عن مصر كلها وأبنائها.. وأن يأذن بخلاص من حكم العسكر المجرمين الخونة الذين أفسدوا في الأرض وأهلكوا الحرث والنسل.
أضف تعليقك