الأستاذ جمعة أمين
يقول ربنا عز وجل { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } البقرة 243،244 إلى قوله تعالى { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين } البقرة 252 .
هذه الآيات الكريمة تبين لنا منهج القرآن في حث المسلمين على الجهاد في سبيل الله بأسلوب يستجيش العواطف، ويناقش العقول ويعمق الإيمان فيقبل المؤمن على الجهاد بقلب ملئ بالإيمان مطمئناً لقضاء الله محتسباً مخلصاً له الدين مقبلاً غير مدبر، وهو يسمع كلمات الله فيلبى نداءه { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ون يولهم يومئذٍ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} الأنفال 15، 16 فيخشى عاقبة الإدبار فيردد بثقة واطمئنان نفس {وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون} إبراهيم 12 فيتوكل على الله وهو حسبه آخذاً حذره، طائعاً لقيادته، ثابتاً على عقيدته ذاكراً الله في كل حين، محافظاً على أخوته ووحدته مصغياً لنداء ربه {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} الأنفال
على هذه المعاني يربى القرآن أتباعه، لا يخشون في الله لومة لائم، فلا يهابون الموت، ولا يخافون الفقر، وفي الآيات السابقة:
ترى جماعة {خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت} البقرة 243 فلم ينفعهم الخروج و الفرار و الحذر من الموت وأدركهم قدر الله الذي خرجوا حذراً منه فقال لهم الله {موتوا}، {ثم أحياهم} لم ينفعهم الجهد في إتقان الموت، ولم يبذلوا جهد في استرجاع الحياة وإنما هو قدر الله في الحالين.
وفي ظل هذه التجربة يتجه إلى الذين آمنوا يحرضهم على القتال، وعلى الإنفاق في سبيل الله، واهب الحياة وواهب المال و القادر على قبض الحياة وقبض المال.
إنه تصحيح التصور عن الموت والحياة وأسبابه الظاهرة وحقيقتها المضمرة ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة والاطمئنان إلى قدرة الله فيهما والمعنى في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع، فالمقدر كائن و الموت و الحياة بيد الله في نهاية المطاف.
يراد أن يقال: الحذر من الموت لا يجدي، وإن الفزع و الهلع لا يزيدان الحياة ولا يمدان أجلاً، ولا يردان قضاء، وإن الله واهب الحياة وهو آخذ الحياة، وإنه متفضل في الحالتين حين يهب وحين يسترد والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد، وأن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك، وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ و المنح سواء {إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} البقرة 243.
ومن هنا فليس الفزع و الجزع و الحذر يغير المصير، ولا يدفع الموت ولم يرد القضاء، فالأولى الثبات والصبر والرجوع إلى الله واهب الحياة بلا جهد من الأحياء، إذن فلا نامت أعين الجبناء.
أما الدرس الثاني : فكان في حياة بنى إسرائيل من بعد موسى عليه السلام ، وبعد ما ضاع ملكهم ونهبت مقدساتهم وذلوا لأعدائهم ، وذاقوا الويل بسبب انحرافهم عن هدى ربهم وتعاليم نبيهم ، ثم انتفضت نفوسهم انتفاضة جديدة واستيقظت في قلوبهم العقيدة واشتاقوا القتال في سبيل الله فقالوا :{ لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله } البقرة 246 .
ومن خلال القصة يتعلم المسلمون أن انتفاضة العقيدة على الرغم من كل ما يعتورها من نقص وضعف - كما في القصة - ومن تخلى القوم عنها فوجا بعد فوج في مراحل الطريق ، على الرغم من هذا كله فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين قد حقق لبنى إسرائيل نتائج ضخمة جداً ، فقد كان فيها النصر والعز والتمكين ، بعد الهزيمة المنكرة ، و المهانة الفاضحة ، و التشريد الطويل ، و الذل تحت أقدام المتسلطين ، ولقد جاءت لهم بملك داود ، ثم ملك سليمان وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بنى إسرائيل في الأرض ، وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه ، و الذي لم يبلغوه من قبل في عهد النبوة الكبرى وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لانتفاضة العقيدة من تحت الركام وثبات حفنة قليلة عليها أمام جحافل جالوت ، كل ذلك ليتعلم المسلمون الدروس المستفادة من هذه المواقف في كل زمان ومكان و التي تعود عليهم بالنفع العميم ، ومن هذه الدروس:
1- أن الجماعة المسلمة المجاهدة لا تخدع القيادة فيها الحماسة الجماعية الظاهرة ، ويجب أن يضع القادة هذه الحماسة على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة ، فهذا النبي الكريم أراد أن يستوثق من صحة عزيمة الجند على القتال وقال لهم { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا } البقرة 246 فاستنكروا عليه هذا القول وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } البقرة 246 .
ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها وتهاوت على مراحل الطريق - كما تذكر القصة - فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم .
2- أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الغائر في نفوس الجماعات ينبغي ألا يقف عند الابتلاء الأول ، فإنه مع كثرة بنى إسرائيل هؤلاء إلا أنهم تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم ولم يتبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها ، وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج و الجدال حول جدارته بالملك و القيادة ووقوع علامة الله باختياره لهم ورجعة تابوتهم وفيه مخلفاتهم تحمله الملائكة، ومع هذا فقد سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولي، وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم ، وحتى القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية .
فأمام الهول الحي أمام كثرة الأعداء وقوتهم تهاوت العزائم وزلزلت القلوب { قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } البقرة 249 وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة ، اعتصمت بالله ووثقت وقالت:{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين } البقرة 249 وهذه هي التي رجحت الكفة وتلقت النصر واستحقت التمكين .
وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة تبرز منها الخبرة بالنفوس ، وعدم الاغترار بالحماسة الظاهرة ، وعدم الاكتفاء بالتجربة الأولى واختبار الطاعة و العزيمة في نفوس الجند قبل المعركة ، وفصل الذين ضعفوا وتركهم وراء ، وعدم التخاذل و الثقة في قوة الإيمان الخالص ووعد الله الصادق للمؤمنين .
3- إن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل ، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود ، فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر كانت ترى مع قلتها وكثرة عدوها ما لا يراه الآخرون الذين قالوا { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف، إنما حكمت حكماً آخر ، فقالت { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين } البقرة 249 ثم اتجهت لربها تدعوه { ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } البقرة 25. وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين ، إنما هي في يد الله وحده فطلبت منه النصر ، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه ، وهكذا تتغير التصورات و الموازين للأمور عند الاتصال بالله حقاً وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح ، وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون ، فتصغر الدنيا وتهون التضحيات .
أضف تعليقك