بقلم: سيف عبدالفتاح
يبدو ذلك التنازع الظاهر والكامن بين الدور الأكاديمي والدور السياسي مسألة مهمة، ذلك أن العلاقة بين هذين الدورين تكمن في خصوصية المهنة والوظيفة التي تخصصت فيها، ألا وهي تدريس السياسة والعلوم السياسية. وربما هنا يتبادر إلى الذهن تساؤل مهم: هل يمكن لعالم السياسة ألّا يمارس السياسة؟ أو بعبارة أخرى هل يمكنه أن يبتعد عن السياسة؟ هل يمكنه أن يكون ذلك الشخص المحايد الذي يمارس فيه دوره المعملي في قاعة الدرس من أن يكون له عمل في مختبر الحياة السياسية على أرض الواقع وميدان السياسة الحقيقي؟ أسئلة مهمة لا يمكن بأي حال من الأحوال تخطيها أو تجاهلها.
نظن أن الإجابة على هذا التساؤل تعني بتفاوت درجات الاهتمام بين الدور الأكاديمي والدور السياسي. وقد أشار إلى هذه المعضلة عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" في كتيبه "رجل العلم ورجل السياسة"، ومن الواضح أنني في فترة ما قبل ثورة يناير كنت من ذلك الصنف الأكاديمي الذي يهتم بدراساته وبحثه وبتدريسه وبطلبته، من دون انخراط كبير في ميادين السياسة الواقعية، ولا ضمن مسارات الممارسة السياسية الحركية. وتبدو المعضلة والحيرة لأكاديمي مثلي هو ذلك ما أسميناه بالدور الكفاحي لعالم السياسية، والذي يفرض عليه فرضا أن يلتحم مع عموم الناس ليشكل حالة المثقف العضوي على ما أشار إليه "جرامشي"، أي ذلك الذي ينخرط مع الناس يتعايش مع همومهم ويتجاوب مع ضروراتهم ويتفاعل مع قضاياهم. إنه لا يستطيع أن يكون على هامش حياة الناس، بل إن الانخراط فيها علامة مهمة في تبدني مفهوم السياسة كمشروع يتعلق بمعاش الناس، إنها قضية محيرة حينما يتنازع الأكاديمي دوره التعليمي والمدرسي، وحينما ينازعه السياسي في دوره الوظيفي والتأثيري في ميادين الناس والحياة، ولكن الإجابة كانت قاطعة مانعة حينما جاء حدث الثورة، ذلك الحدث المفصلي الذي يفرض على الأكاديمي أن ينخرط فيما بشر به من عمليات النهوض والتغيير.
شكلت ثورة يناير معملا مهما لا يستطيع أن يتوارى فيه الأكاديمي ويحتمي بمكتبه وكتابه ويمتشق قلمه ليخط بعض كلام؛ وهو في مقام الغائب عن الحدث، ذلك أنه حينما يحين فعل الثورات فإما أن تكون فيه وإما أن تكون خارجه. فحدث الثورة يَستوعب ولا يُستوعب، إنه الحدث الكبير الذي يفرض على الأكاديمي في حقل العلوم السياسية، والذي يجعل من وظيفته الكفاحية مسألة لا مساومة فيها، وعليه بلا مواربة وبدون إبطاء أن ينخرط بكل قوته وقدرته؛ لا ينتظر ولا يتوارى ولا يتثاءب حيال الحدث، لا يختبئ أو يتهرب منه. ورغم أن بعض أساتذة السياسة استطاع أن يقوم بهذه الأدوار المختلفة من الاختباء والتواري، إلا أن تركيبة الشخصية لمثلي لا بد وأن يجد نفسه في قلب هذا الحدث الثوري من دون اختيار وبكل إصرار، ولا معنى للقعود أو الانتظار.
إلا أنه في الحقيقة، ونحن كنا في قاعات الدرس، لم نكن نحسن الحديث عن الثورات، ولم نعط هذا الأمر الاهتمام الكافي، بل استطعنا أن نلوذ بموضوعات عن الإصلاح التدريجي، وتلك المبادرات التي تتعلق بذلك وتحت سقف النظام القائم. وكنا نتحدث عن أنه إذا كان لا بد من ثورة، فمن الواجب أن يكون لها من ممهدات، وأن تلك المهمات التي تتعلق ببناء الوعي الثوري مسألة ليست باليسيرة، ورغم ذلك فإنها خطيرة، وتتراكم مع مرور الزمن؛ لا تستوعبه سنوات كثيرة، بل ربما تمتد إلى عقود طويلة. هذا شأن بناء الوعي المستدام الذي يشكل حصنا لأي ثورة أو أي عمل ثوري، حتى يمكننا أن نملك مشروعا للنهوض وبناء دولة فاعلة ومجتمعا جديدا.
إنها الثورة! الثورة تغيير جذري لا بد وأن ينخرط فيه الجميع ويعمل فيه الجميع، ذلك أن هذا الحدث ليس حدثا يوميا أو موسميا، ولكنه في حقيقة الأمر حدث تعتمل فيه عوامل دافعة وتتراكم بصدده بيئة مواتية، ومن هنا تكون الثورة معملا مهما لأي عالم سياسة، وقد صادف وقتها أن يقوم بدوره السياسي الكفاحي المأمول الذي لا يملك عالم السياسة إلا أن يقوم بعمل ملزما به ملتزما بغاياته وأهدافه، ليحقق كل تلك الأفكار التي تتعلق بالتغيير الكبير والنهوض العظيم ومتطلباته ومُوجبات ذلك التغيير. لا يمكن الحياد.. إن عالم السياسة المحايد في هذا الموقف إنما يخون جوهر وظيفته الحقيقية وجوهر وظيفته الكفاحية التي يمليها عليه ضميره الأكاديمي والقيمي من جهة، والضمير الأخلاقي والقيمي من جهة أخرى.
كان هذا هو أمر التدافع ما بين الأكاديمي والسياسي حسمه الحدث الثوري. وهنا إذ نتذكر، نتذكر أستاذنا الدكتور المسيري الذي شكل طاقة حركية حية، فضلا عن دوره الأكاديمي والعلمي والبحثي المشهود؛ الذي ترك أثرا واسعا، خاصة لدى فئة الشباب، حتى أنني حينما دعيت لتأبينه بعد الثورة تحدثت عن تلك التجمعات الشبابية والأكاديمية في منتداه الأسبوعي في منزله، والتي جمعت بين أطراف مختلفة من الناحية السياسية والثقافية، وقدمت نموذجا لميدان التحرير قبل الالتئام الفعلي في "ميدان تحرير الثورة" في يناير.. اجتمع لديه القاصي والداني، اجتمع عنده الشباب من الجنسيين، وتجمعت قدرات وتخصصات مختلفة ومثلت تنوعات أيديولوجية كبيرة.
اجتمع كل هؤلاء في منتدى المسيري ليشكل واحدة من قنوات التدريب على الاجتماع والتسامح والتحمل المتبادل، ضمن إدارة المختلف والمتنوع. تذكرت كل هذا وقد كنت أعد لمؤتمر حول التحيز في مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، استكمالا لجهد هذا الأستاذ العظيم، وكنا ننسق هذا العمل بكل جد واجتهاد، وبدا المؤتمر جاهزا إلا من عدة أمور تنتظر الحسم مع الدكتور المسيري، ورد عليّ من هاتفه المحمول، وحينما اتصلت به عرفت أنه في مكان يعج بالناس وتتعالى فيه من النداءات والهمهمات التي قد لا تمكنه من الكلام، فسألت أستاذنا: أين أنت؟! فأجابني بأنه لا يستطيع الرد عليّ؛ لأنه في مظاهرة أمام نقابة الصحفيين.
كان هذا الموقف موقفا فارقا بالنسبة لي: كيف مارس هذا الأستاذ دوره الأكاديمي والسياسي والحركي؟ فما يثنيه دور عن دور، ففي تكامل تلك المعزوفة بين تلك الأدوار في انسجام ومن غير تنازع، كان أستاذنا المسيري حاضرا بارزا، وكان هذا الموقف كاشفا وواضحا بين من يريد أن يمارس دوره الأكاديمي من غير أن يهمل دوره السياسي. لا أكتمكم القول؛ لقد خجلت من نفسي، كيف لهذا الشيخ الكبير أن يوجد في مقام التظاهر وأنا أجلس هنا على مكتبي؟ شعرت بالتقصير الشديد، والذي وجدته تقصيرا خطيرا.
ثم كانت الثورة لتشكل هذا الحدث الفارق وتفرض حالة أخرى على مراحل عمل ودور في مجال السياسة. إنه الدور السياسي يطل من بوابة حركية ومن مركزنا البحثي مركز الحضارة الواقع في ميدان التحرير، وكأن المكان والنموذج والثورة الدافعة كانت بمثابة شرارة جامعة لدور لم أكن قد خططت له! وإلى مقال قادم.
أضف تعليقك