بقلم: الأستاذ جمعة أمين
ويتعلم المسلمون الأوائل - ويجب أن يتعلم من بعدهم - أن الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله ، و التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء وتستمد السراء بالزهو ، ولا تطير نفسه لهذه أو تلك ، ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقى كذا ، أو ليستجلب كذا ، بعد وقوع الأمر وانتهائه ، فمجال التقدير و التدبير و الرأي و المشورة كله قبل الإقدام و الحركة ، فأما إذا تحرك بعد التقدير و التدبير - في حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج فهو يتلقاه بالطمأنينة و الرضا و التسليم ، موقناً أنه وقع وفقاً لقدر الله وتدبيره وحكمته ، فأما الذي يفزع قلبه من العقيدة في اله على هذه الصورة المستقيمة فهو أبداً مستطار ، وابد في قلق ويخاف الموت ، وما أدرك أن " الله يحي ويميت " فبيده إعطاء الحياة ، وبيده استرداد ما أعطى ، في الموعد المضروب والأجل المرسوم ، سواء كان الناس في بيوتهم و بين أهليهم أو في ميادين الكفاح للرزق و العقيدة وعنده سبحانه الجزاء ، وعنده العوض .
- الموت ليس نهاية المطاف :
" هاجس الموت "
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل - كما يظن أهل الباطل - فهذه ليست نهاية المطاف ، وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء فهناك قيم أخرى واعتبارات أرقى في ميزان الله { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } آل عمران 157، 158 .
فالموت أو القتل في سبيل الله - بهذا القيد وبهذا الاعتبار - خير من الحياة وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته ، وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون ، وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين ، إنه لا يكلهم في هذا المقام - إلى أمجاد شخصية ولا إلى اعتبارات بشرية ، إنما يكلهم إلى ما عند الله ، ويعلق قلوبهم برحمة الله وهي خير مما يجمع الباطل ، وخلال المعركة سيجدون قتلى يخرون شهداء في معركة الحق ، شهداء في سبيل الله ، قتلى أعزاء أحياء ، قتلى كراماً أزكياء ، فالذين يخرجون في سبيل الله و الذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس ، هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتاً ، إنهم أحياء فلا يجوز أن يقال عنهم أموات ولا يجوز أن يعتبروا أمواتاً في الحس و الشعور ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة و اللسان إنهم أحياء بشهادة الله .
- الموت في سبيل الله حياة :
إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة والفكرة التي من أجلها قتلوا تروى بدمائهم وتمتد وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد فهم ما يزالون عنصرا فعالاً دافعاً مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها وهذه هي صفة الحياة الأولى فهم أحياء بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس ثم هم أحياء عند ربهم إما بهذا الاعتبار وإما باعتبار آخر لا ندرى نحن كنهه وحسبنا إخبار الله تعالى به وصدق الله القائل { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا يشعرون } البقرة - 154 .
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطلع عليهم ربك إطلاعة فقال : ماذا تبغون ؟ فقالوا : يا ربنا وأي شئ نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا : نريد أن تردنا إلى دار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى لما يرون من ثواب الشهادة فيقول الرب جل جلاله : أنى كتبت أنهم إليها لا يرجعون )) .
ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضى الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيلي وإيماناً بي وتصديقا برسلى فهو علىّ ضامن أن أدخله الجنة وأرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئة يوم كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك والذي نفس محمد بيده لو لا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عنى والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل )) .
إن هذه المفاهيم تعديل كامل لمفهوم الموت متى كان في سبيل الله وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة وحيث تستقر في مجال فسيح عريض لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا عن هذه النقلة من صورة ومن حياة إلى حياة .
الموت في سبيل الله قمة التضحية :
كل بصير بالنفس الإنسانية يعلم أن الذي يخيف الناس إلى المسارعة إلى التضحية والفداء هو التهيب من لقاء الموت والرهبة في انتهاء الحياة ولذلك أراد القرآن أن يلفت إلى حقيقة لا ريب فيها ولا معدل عنها وهي أن الموت آت آت ولابد من وقوعه ولا وسيلة للتخلص منه فقال في سورة الرحمن { كل من عليها فان } الرحمن - 26 ] وقال في سورة الواقعة { نحن قدرنا بينكم الموت } الواقعة -6. ] وكرر قوله { كل نفس ذائقة الموت } ثلاث مرات في ثلاثة سور هي آل عمران والأنبياء والعنكبوت .
وأكد أنه لا سبيل إلى الفرار من هذا الموت فقال في سورة النساء { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } النساء - 78] وقال في سورة الأحزاب { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } الأحزاب 16] وقال في سورة الجمعة { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } الجمعة -8 .
وما دام الموت لا بد منه ولا محيد عنه فإن الموت تضحية في سبيل الله وهو موطن كريم خير من الموت في موضع لئيم والمتنبي يقول :
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تعيش جبانا
وما دام الأمر كذلك فالأجدر بالإنسان العاقل أن ينطلق إلى ساحة الجهاد معتمدا على ربه واثقا في نهاية سعيدة له وهي النصر أو الشهادة وهي أعلى صور التضحية بالنفس غير هياب ولا وجل فلن يصيبه إلا ما كتبه الله له وهو خير على كل حال كما قال القرآن في سورة التوبة للمؤمن الموقن { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون } التوبة 51- 52 ] ويقول في سورة آل عمران مذكرا بتقرير الأجل مفضلا ثواب الآخرة وطريقه الجهاد والتضحية على متاع الدنيا الزائل { وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله كتاباً مؤجلاً ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها وسنجزى الشاكرين } لآل عمران 145
ويرشد القرآن أهله إلى أن طريق الجهاد والتضحية ليس مفروشا بالورود والرياحين وإنما هو طريق شاق له متاعبه وتبعاته ولكنه طريق المجد وإذا كان المؤمنون المحقون ينالهم شئ من الألم أو الجراح في هذا الطريق فإن الكافرين المبطلين من أعدائهم يصيبهم مثل ذلك أو أكثر ومع ذلك يصبرون على باطلهم بل ويضحون من أجله فكيف لا يكون المؤمنون أصبر منهم على الحق والرشاد ونهاية المؤمنون إلى النعيم ونهاية أعدائهم إلى الجحيم يقول الله تعالى للمؤمنين في سورة النساء { ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيماً } النساء 104] وفي سورة آل عمران يقول { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين لآمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين} آل عمران -140- ] .
وإذا كانت كلمة الفداء التضحية في أصل معناها اللغوي تدل على جعل شئ فدية لشيء مقابلا لتحقيقه فإن كتاب الله العزيز قد أكد ذلك حين صور الإقدام المخلص على التضحية والفداء في سبيل الله تعالى بصورة صفقة مباركة يعقدها الله جل جلاله مع عباده المؤمنين الصالحين بيقينهم وعباداتهم وأخلاقهم وفضائلهم لشرف الجهاد ونعمة الاستشهاد تضحية فقال في سورة التوبة { إن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين } التوبة 111- 112 ].
كما يقدمها في صورة أخرى رائعة فهو يقصر على المؤمنين الدعوة إلى عقد الصفقة وإرشادهم إليها وهو يرسم لها طريقها ويوضح لهم فيها ثمن السلعة الغالية المعروضة والتي يضحون من أجلها كما يوضح هم جلال هذه السلعة وثمراتها القريبة والبعيدة أو العاجلة والآجلة فيقول في سورة الصف { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ؟ تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } الصف 10-12 ].
فهي إذن أخذ الخالد الباقي الدائم بالفاني الذاهب الزائل وفيها الثواب الجزيل وفيها اللجوء إلى ولاية الله ونصره وهو خير الناصرين وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم وفيها الوعد بالغلبة على حزب الشيطان وأوليائه كما بين في سورة النساء { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا وأجعل لنا من لدنك نصيراً الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } النساء 74- 76 ].
والقرآن يجزم ويؤكد الوعد الإلهي المحقق للمجاهدين المضحين الباذلين الفادين فيقول في سورة محمد { والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } محمد 4-7 ] ويقول في سورة آل عمران { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } آل عمران 157] ويقول في السورة نفسها {فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب } آل عمران 195 ] .
فالقرآن هو المعلم لدروس التضحية والفداء وهو الوجه إلى روح البذل والإقدام فهو يجعل الجهاد فريضة مكتوبة وركيزة مطلوبة من حرص عليها وصدق فيها عز ومن أهملها أو خادع فيها ذل فقال في سورة العنكبوت { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } العنكبوت 69 ]
وأرشد إلى أن الجهاد يكون ببذل الأموال وتقديم الأنفس فداء لغاية الجهاد وهدفه فأمر عباده المؤمنين بذلك فقال يخاطبهم في سورة التوبة { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } التوبة 41] ووصف المؤمنين بأنهم هم الذين { جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } أربع مرات في سورة الأنفال مرة وفي سورة التوبة مرتين وفي سورة الحجرات مرة .
ومن هنا فإن القرآن الكريم يطالب أهله بتبعاته الفدائية والتضحية في القتال فالفدائي لا يليق به ولا يجوز منه أن يفر أو يلقى السلاح إلا إذا كان يتأخر ليكر ويتقدم أو إذا أن يتأخر في الميدان لينضم إلى جماعة من إخوانه في الجهاد يتقوى بهم ويشد ساعده وفيما عدا هاتين الحالتين لا يباح ل أن يترك مواجهة عدوه مضحيا بكل غال ونفيس حتى ولو كانت نفسه التي بين جنبيه حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده وعليه أن يثبت ويقاوم ذاكرا ربه مستمدا من إيمانه به قوة تعينه على بلوغ النجاح ولذلك يقول القرآن في سورة الأنفال { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } الأنفال :16 ] ثم يقول في السورة نفسها { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون } الأنفال 45].
ولقد ترجم هذا المعنى الإمام البنا رضوان الله عليه مخاطباً أتباعه قائلا : أيها الإخوان قبل أن آخذ معكم في حديث الدعوة أحب أن أوجه إليكم هذا السؤال هل أنتم على استعداد بحق لتجاهدوا ليستريح الناس ؟ وتزرعوا ليحصد الناس ؟ وأخيرا لتموتوا وتحيا أمتكم ؟ وهل أعددتم أنفسكم بحق لتكونوا القربان الذي يرفع الله به هذه الأمة إلى مكانتها والإجابة إن كانت بالإيجاب فأصحابها لا يعرفون القهقرى بل التقدم والمسارعة .
أضف تعليقك