بقلم: الأستاذ جمعة أمين
عن أبى عمران قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقى بيده إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : أيها الناس أنتم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما نزلت فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت وإن الله تعالى أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه ليرد علينا ما قلناه { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } البقرة 195]. وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم .
هذا هو المعنى والفقه الذي يجب أن يسود بعد أن فهمها كثير من المسلمين بل مازالوا يكررون هذا المعنى الخاطئ حتى يومنا هذا فإذا قام رجل ليقول كلمة الحق أمام سلطان جائر أو بذل ن ماله أو ضحى بنفسه في سبيل مبدأ أو عقيدة أو قيمة قالوا له : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وما علموا أن التهلكة في تركهم للباطل يستشري وللحق أن يتواري فكيف يسود المبدأ ويبقى ويستمر إذا لم يكن له رجال يضحون لتعلو القيمة وتثبت العقيدة ويسود الحق ويقام شرع الله على الأرض ؟ .
حقيقة ينساها الكثير :
{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ون يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزى الشاكرين } آل عمران : 144- 145] .
إن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس من الرسل والدعاة على مدار التاريخ وما محمد صلى الله عليه وسلم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن العميقة في منابت التاريخ المبتدئة مع البشرية تحدو لها بالهدى والسلام مع مطالع الطريق .
وهي أكبر من الداعية وأبقى منه فدعاتها يجيئون ويذهبون وتبقى هي على الأجيال والقرون ويبقى أتباعها موصولين بمصدرها الأول الذي أرسل بها الرسل وهو باق سبحانه يقوم إليه المؤمنون وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ويريد عن هدى الله والله حي لا يموت وما أطيب كلام النضر بن أنس رضى الله عنه حين أشيع أن محمدا قتل فقال لهم : فما تصنعون بالحياة من بعده فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والقرآن مع هذه القصة يلمس مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية لمسة موصية تطرد ذلك الخوف عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير ومن ابتلاء للعباد وجزاء { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزى الشاكرين } آل عمران 145.
إن لكل نفس كتابا مؤجلا إلى أجل مرسوم ولن تموت نفس تستوفي هذا الأجل المرسوم فالخوف والهلع والحرص والتخلف لا تطيل جلاً والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمراً فلا كان الجبن ولا نامت أعين الجبناء فالأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد .
بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس فتترك الاشتغال به ولا تجعله في الحساب وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته في صبر وطمأنينة وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده .
فإذا كان العمر مكتوبا والأجل مرسوما فلتنظر نفس ما قدمت لغد ؟ ولتنظر نفس ماذا تريد؟ أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان وأن تحصر همها كله في هذه الأرض وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها ؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى وإلى اهتمامات أرفع وإلى حياة أكبر من هذه الحياة ؟ مع تساوى هذا الهم وذلك فما يختص بالعمر والحياة ؟
وشتان بين حياة وحياة وشتان بين اهتمام مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل والذي يعيش لهذه الأرض وحدها ويريد ثواب الدنيا وحدها إنما يحيا حياة الدنيا والدواب والأنعام ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب !! والذي يتطلع إلى الأفق الآخر إنما يحيا حياة الإنسان الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب { وما كان لنفس أن تموت إلا بأذن الله كتاباً مؤجلاً ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن رد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزى الشاكرين } آل عمران 145 ] الذين يدركون تفهم التكريم الإلهي للإنسان فيشكرون الله على هذه النعمة فينهضون بتبعات الإيمان .
وهكذا يقر القرآن حقيقة الموت والحياة وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء وفق ما يريدون لأنفسهم من اهتمام قريب كاهتمام الدود أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان بذلك ينقل النفس ن الانشغال بالخوف من الموت من التكاليف وهي لا تملك شيئا في شأن الموت والحياة إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه وتملك فيه الاختيار فتختار الدنيا أو تختار الآخرة وتنال من جزاء الله وتختار .
مثال حي
ويضرب القرآن المثل الحي لأولئك الذين صدقوا في إيمانهم وقاتلوا مع أنبيائهم فلم يعجزوا عند الابتلاء وتأدبوا وهم مقبلون على الموت بالأدب الإيماني في هذا المقام مقام الجهاد فلم يزيدون على أن يستغفروا ربهم وأن يجسموا أخطاءهم فيروها (إسرافاً) في أمرهم وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار وذلك في قوله تعالى : { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } آل عمران 146- 147 ].
مجاهدون لم تضعف نفوسهم أمام الموت ولا تتضعضع قواهم ولا تلين عزائمهم ولا يستكينون أو يستسلمون وفي هذا الموقف لم تشغلهم الدنيا لذلك لم يطلبوا نعمة ولا ثراء بل لم يطلبوا ثوابا ولا جزاء لقد كانوا أكثر أدبا مع الله وهم يتوجهون إليه بينما هم يقاتلون في سبيله فلم يطلبوا منه سبحانه إلا غفران الذنوب وتثبيت الأقدام والنصر على الكفار فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبون هزيمة الكفر وعقوبة الكفار إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم
كذلك أعطاهم الله من عنده كل شئ أعطاهم كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه { فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } وشهد لهم المولى بالإحسان فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد وأعلن المولى حبه لهم وهو أكبر نعمة وأكبر ثواب { والله يحب المحسنين } آل عمران 134 ].
ولقد ترجم هذه المعاني إلى حياة ترى ومواقف مشهودة نماذج من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .
أضف تعليقك