• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: قطب العربي

عقب الانقلاب العسكري في مصر (3 تموز/ يوليو 2013)، راجت مقولة أن مصر هي دولة العسكر طيلة تاريخها، وأن الحكم المدني القصير لم يكن أمرا طبيعيا بالمرة، ولذلك جاء الإنقلاب العسكري ليعيد الحكم لأصحابه الأصليين.

ترددت هذه المقولة على ألسنة بسطاء وعوام مصريين، توارثوها جيلا بعد جيل، حتى أنهم كانوا ينظرون إلى ثورة 25 يناير وما أحدثته من تغيير باعتباره مجرد جملة اعتراضية في تاريخ مصر، وأن العسكر لن يستسلموا لهذه الموجة الثورية، ولن يفرطوا في حقوقهم التاريخية في حكم مصر. وحين وقع الانقلاب، زعمت تلك الأصوات أنها كانت تمتلك الحقيقة رغم بساطة وضعها التعليمي. كما روجت النظم الخليجية، وخاصة السعودية، لفكرة أن حكم مصر هو حصريا للجيش، وحتى حين كانت بعض النخب السعودية تفكر في تسوية سياسية لأزمة الانقلاب في مصر، فقد كانت تقترح حاكما عسكريا بتوافق سياسي.. فهل مثل هذه المقولات حقيقية فعلا؟ أم أنها مجرد غرس شيطاني في أدمغة المصريين حتى لا يفكروا في التخلص من حكم العسكر، ويبحثوا عن حكم مدني مثل سائر الدول المتقدمة؟

يدعي الكثيرون من "المتثاقفين" أن الحكم العسكري لمصر بدأ بالفراعنة، وظل ممتدا تحت الحكم الروماني، وفي العصر الحديث بدأ الحكم العسكري بانقلاب 1952 وحتى الآن، باستثناء سنة يتيمة حكم فيها حاكم مدني هو الدكتور محمد مرسي، وكانت هذه السنة استثناء من القاعدة. وهذا الكلام يجافي حقائق التاريخ، فحكم الفراعنة (لو أخذنا الجانب الاستبدادي فيه) كان متسقا مع عصره، حيث كانت كل الأنظمة الحاكمة شرقا وغربا تحكم بتلك الطريقة، وكما تضمن القرآن والسنة حديثا وإشارات عن الطبيعة الاستبدادية لحكم الفراعنة، فقد تحدثا أيضا عن استبداد الفرس والروم. وقد تطورت الدول التي كانت تحت حكم الفرس والروم تاريخيا، وحققت معدلات أكثر تقدما في الحكم الرشيد وفي الديمقراطية التنافسية، والحكم المدني، كما أن مصر نفسها عاشت في ظل حكم مدني بعد الفتح الإسلامي. وفي العصر الحديث، عاشت حقبة ديمقراطية منذ مطلع القرن الماضي وحتى وقوع انقلاب يوليو 1952 (وإن كانت ديمقراطية مبتسرة بحكم وجود الاستعمار من ناحية وبحكم الوضع الاقتصادي السيئ من ناحية أخرى)، وكان الناخبون المصريون يمنحون ثقتهم لأحد الأحزاب مرة ولغيره مرة أخرى، وكان لدى مصر برلمان نشط يحاسب الوزراء، ويسقط حكومات، وكان رؤساء الوزارات (خاصة من الأحزاب الشعبية الكبرى) يتمتعون بسلطات قوية في مواجهة الملك، وبالتالي لا يصح الاستناد إلى تلك الجذور الفرعونية لتبرير الحكم العسكري الاستبدادي لمصر.

وينبغي أن تحارب النخب المصرية ووسائل الإعلام والتعليم تلك الثقافة (لدى بعض القطاعات الشعبية) التي تميل تلقائيا لقبول الحكم الاستبدادي، والتي نحتت لذلك أمثالا شعبية لشرعنة ذلك الاستبداد من عينة "من يتزوج أمي يصبح عمي"، و"إن كنت في بلد تعبد عجلا فقدم له برسيما"، والتي جاء بعضها ربما تأثرا بالثقافة المسيحية التي سادت في مصر لقرون طويلة، والتي شرعنت قبول الإهانة (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر).. أدرك أن لهذا النص الإنجيلي سياقه الخاص، لكنه أخذ طابع العموم في الثقافة الشعبية المصرية، كما أن وعاظ السلاطين (المسلمين) نشروا فكرا مماثلا يقضي بتحريم الخروج على الحاكم (وإن جلد ظهرك وأخذ مالك). وقد تنافس جانب من الفكر السلفي والصوفي في نشر هذا المفهوم بين المصريين أيضا (مع غيرهم من الشعوب الإسلامية)، لقد كان الكثير من الفقهاء ينحون هذا المنحى (عدم الثورة ضد الحاكم الظالم) خشية الفتنة، والتي تتمثل في الاقتتال وإسالة الدماء.

وقد استفاد الحكام المستبدون على مر التاريخ من انتشار هذه الثقافة بوجهيها الإسلامي والمسيحي، وحرصوا على ترسيخها مع الوقت، ولذلك لم تتأثر الدول العربية والإسلامية (وفي القلب منها مصر) بالموجات الديمقراطية التي غزت بلدان أوروبا الغربية منذ الثورة الصناعية، كما لم تتأثر بالموجة الديمقراطية في أوروبا الشرقية، أو حتى في أفريقيا الأكثر تخلفا اقتصاديا، حتى جاءت موجة الربيع العربي التي انطلقت من تونس، ثم وصلت إلى مصر، لكنها تعرضت لانتكاسة على يد سدنة الحكم العسكري. ومع ذلك، فلا تزال قطاعات كبيرة من الشعب ممن تعرف قيمة الحرية والكرامة في مرحلة مقاومة وصمود في مواجهة ذاك الانقلاب العسكري، ولم ترفع له راية الاستسلام، رغم كل ما أصابها من مجازر جماعية، وتصفيات جسدية، واعتقالات عشوائية، وتعذيب ممنهج، وقتل بطيء داخل السجون.

ليس صحيحا أن الحكم العسكري هو الذي يستطيع إدارة شؤون مصر، وحمايتها مما تتعرض له من فتن ومؤامرات. ولنا في التاريخ القريب والبعيد عبرة ودليل على فشل هذا الحكم في إدارة الدولة، وتسببه في هزائم كبرى لا زلنا نعاني تداعياتها حتى الآن، وتعريضه أمنها للخطر، بل وإقدامه مؤخرا على التفريط في سيادتها وبيع جزرها، والتنازل عن حقوقها المائية والغازية، وتحميل الأجيال الحالية والقادمة بتركة ثقيلة من الديون عديمة الجدوى، ونشر الفساد، وتقنينه، وحماية الفاسدين، بل وتكريمهم بتوليتهم أرفع المناصب، كما تم مؤخرا مع مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء الجديد والمتهم في قضايا فساد كبرى منذ العام 2011.

لم يأخذ الحكم المدني الوليد بعد ثورة يناير فرصته كاملة حتى يمكننا تقييم آدائه ومقارنته بالنظم المدنية المماثلة، ومع ذلك فقد حقق هذا الحكم في عام واحد العديد من الإنجازات والخطوات التي تحتاج لمقالات أخرى لإبرازها، ولكن الأذرع الإعلامية للثورة المضادة نجحت في تشويه تلك الإنجازات، وإطلاق قنابل الدخان الكثيف عليها، مما حرم الناس من رؤيتها. ولعل تلك الخطوات التي كانت تسير في الإتجاه الصحيح كانت أحد الأسباب الرئيسية للمسارعة بالانقلاب؛ قبل أن يحقق الحكم المدني نموذجا مضيئا يصعب وقفه بعد ذلك.

الحكم العسكري ليس قدرا مقدورا على المصريين، وبإمكانهم التخلص منه، كما فعلوها لوقت قصير بعد ثورة يناير. وقد عاشت الكثير من الشعوب تحت حكم عسكري لعقود طويلة، لكنها تخلصت منه، وأسست حكما مدنيا نجح في نقلها من مصاف الدول المتخلفة إلى الدول المتقدمة. ولنا في تركيا خير مثل، فقد انتقلت في ظل الحكم المدني المستقر إلى مصاف الدول المتقدمة، وأصبحت واحدة من مجموعة العشرين الصناعية الكبرى، وتخطط لتبوؤ صدارة المجموعة. وهذا الحلم لم يكن ليتحقق لو استمرت تحت الحكم العسكري، كما تطورت دول أمريكا الجنوبية التي طلقت الحكم العسكري، ومثلها الدول الأفريقية التي تخلصت من حكامها العسكريين. وأصبح استمرار الحكم العسكري وصمة في جبين كل مصري يقبل به، بعد أن عاش المصريون تجربة قصيرة لحياة الحرية والكرامة والعدالة بعد ثورة يناير.

أضف تعليقك