بقلم: سيف عبد الفتاح
تشهد مصر، في هذه الأيام، مشاهد متناقضة تعبر، للأسف الشديد، عن حقيقة مرة مفجعة، ذلك أن هذا الشعب، بكثير من فئاته، لا يزال أسيرا لفيروس الاستقطاب الذي تمكّن منه وسكنه ولم يغادره بعد، كل يدعي تحملا كاذبا، وبعض آخر يدّعي حملا زائفا، وعبد الفتاح السيسي المنقلب الذي يُحمّل الجميع خارج إطار طاقتهم لا يزال يستعبد هذا وذاك فرحا، راضيا بمآلات ذلك الاستقطاب. الكل يهجو الكل، والكل يشمت في بعضه، والشعب يمزق كل ما يتعلق بلحمته، وخلق الشماتة فيه ليس إلا شعبة من صناعة الكراهية التي طمت وعمت. كل من هؤلاء يسب الشعب. وفي النهاية المعركة صفرية، فقط المستبد الظالم هو الذي يفوز، لا تدري إن كان هذا الشعب، وبعض من فئاته قد أدمن حالة الاستقطاب والفرقة والتمزق، فصار يمارس ذلك طقسا يوميا بمناسبة ومن دون مناسبة.
هذا سجنه السيسي، وبعضٌ يشمت فيه. وهذا يتمنى هزيمة منتخب مصر في الكرة، وأنه لا يجوز لهذا الشعب أن يفرح، بل عليه أن يعلن الحداد الدائم والحزن القائم. وهذا يشمت بفصيل بعينه بأنه يختلف معه سياسيا وأيديولوجيا. هؤلاء جميعا طاولهم الظلم بكل صنوفه وأشكاله، والمستبد المنقلب صار يستفرد بكل منهم على حدة. رفقاء ثورة يناير أصبحوا فرقاء متشاكسين، لا يتمنّون لبعضهم الخير أو الفرح، يتشاتمون ويتشامتون، والمستبد يوطّد أركانه، ويمد في طغيانه، فالجميع يتشاتمون وهو الحاكم بأمره، والناجي من سوق الهجاء. لا أحد منهم يفكر من هو عدو هذا الوطن الحقيقي، ولا يتبصر اصطناع عداواتٍ وافتعال مشاجراتٍ. وفي ظل هذا المناخ من الشجار، نشلت كل قدرات التغير، فصارت حتى الدعوة إلى كلمة سواء، أو اصطفاف واجب مطلوب، دعوة حمقاء في عرف بعضهم. وقد لا تجد من مؤيد أو داعم إلا في النادر القليل، الكل يخوِّن بعضه، والخائن الحقيقي يستمر في بيع البلد، ويقوم بدوره المرسوم في صفقة القرن الملعونة.
هذه المتوالية من الهجاء ومن كل صنف اعتمدت سب الشعب، وربما تواطأت من اتفاق على
"ما زال الاستقطاب يمرح بيننا وما زال المستبد يمد في طغيانه" ذلك، وكل منهم يسب الشعب معمما، ظنا منه أنه ليس من الشعب، وأن الشعب غيره وغيرهم، وكأنهم ناجون من نار الغلاء والاكتواء برفع الأسعار وذل الإفقار. الكل يسب الشعب، كل في ذهنه شعب بعينه، لكنه يسب الشعب بعامة، فهو عند بعضهم شعبٌ من العبيد. فلول الحزب الوطني يشتمون الشعب، ويعايرونهم باليوم الذي خرجوا فيه على حسني مبارك المخلوع، وهم يتنقلون بين مقولة "آسفين يا ريس" إلى مقولة أخرى راجت على الألسنة "ولا يوم من أيامك يا مبارك"، وهم بذلك يتحدثون عن شعبٍ ناكر للجميل، يستاهل ما يحدث له. إنهم يدفعون ثمن جهلهم، وبعض من أنصار فصيل بعينه يشتمون هذا الشعب، لأنه لم يقف معهم. ويفضل بعضهم أن يعمم أن هذا الشعب قد رقص على دمائه وجثثه، وهو أيضا ناكر للجميل. لم يعجبه الرئيس المنتخب، وخرج في مواجهته في 30 من يونيو (2013)، وهو الآن، أي الشعب، لا يستطيع أن يتنفس، وتتوالى عليه قرارات الجباية، ورفع الدعم، وغلاء الأسعار، ولسان حالهم يقول "يستاهلوا"، والنخبة المحنطة تسب هذا الشعب وتهجوه. إنه شعب جاهل الذي لم يكن أهلا لأي تغيير، شعب أمي وأغلبه جاهل. أما النخبة فهي طليعية بريئة، لا أحد يتحدث عن خيانتها ثورة، متغافلين عن انبطاحهم أمام العسكر، وعن تحالفهم مع أعتى المستبدين، نخبة منحطة فعلت كل الموبقات، وتخاطب شعبها وتسبه "يستاهلوا".
وبعض الثوار يدخل المزاد، الثوار المزيفون، يجعلون من هذا الشعب مادة لغضبهم، إنه لا يستاهل تضحياتهم، ولا يعرف مقامهم، وفي كل الأحوال "يستاهلوا"، ثم يأتي النظام ليخاطب هذا الشعب الذي سبّه كل أحد، هجاه كل زائف، كل هؤلاء أصحاب تحملٍ زائف وحمل كاذب، إنهم يشكلون وهما طعن هذه الثورة وشهداءها في الصميم، وسمح للمستبد والمخادع والمنقلب والزبانية، بأن يستخفوا بهذا الشعب، بين جبايةٍ لا تنقطع وارتفاع أسعار لا يتوقف. إن النظام وهو يستمر في استراتيجية الترويع والتجويع يعاقب هذا الشعب، وحال أفعاله يقول "يستاهلوا". خرج هؤلاء على أسيادهم في 25 من يناير، وشكلوا ظهيرا شعبيا للثورة، فلتفعلوا بهم الأفاعيل.
هذا هو الوضع، فهل يمكن، بعد ذلك، أن نستنهض شعبا، أو أن نستنفر شعبا، ليغير أو ينهض. هذه معادلة خطيرة، نحن من نسهم في قتل إرادة شعب، هذا الشعب يخوض حربا أهلية في معارك كلامية وشماتات جماعية، أمراض متوطنة، والمستبد آمن، يمارس خطاب احتياله، وخطاب استبداده يقول إنه يرفع الدعم، وهو لم يدعم هذا الشعب في أي يوم، ويؤكد أنه لم
"إنها صناعة المستبد، حينما يجد في مساحات تفرّقنا موضعا لترسيخ أقدامه، وتمكين سلطانه" يرفع الأسعار، إنه حركها، وكل ما يفعله إنما يصب في مصلحة الوطن والمواطن والحال هذه. وها هو الأستاذ جلال عامر يكشف أسطورة الدعم الموهوم قائلا: "الحكومات في كل الدنيا تجمع إيراداتٍ، ثم تنفق منها على المجالات المختلفة، فلا يوجد ما يسمى دعم العلاج، أو دعم التعليم وهكذا.. وإلا سمينا ما تنفقه الحكومة على الشرطة دعما أمنيا، وعلى الجيش دعما عسكريا، وعلى الرئاسة دعما رئاسيا، فالحقيقة أنه إنفاق عادي، اختارت الحكومة منه ما يخص الشعب، وسمته "دعما"، ليعطي إيحاءً بمعنى الصدقة أو الإحسان، وهذا خطأ سياسي واقتصادي، انساق كثيرون وراءه للأسف".
المستبد وزبانيته هم أكثر المناطق الآمنة التي توطن حالة الاستبداد المقيم، ووضع الطغيان العميم، وفي إطار من كذبةٍ كبيرة، من تحمل غرم هذا الشعب فترة طويلة، وأنهم يتخذون قرارات قاسية في إصلاحٍ يزعمون أنه الإصلاح الضال، بين تحملٍ زائف وحملٍ كاذب وتراشقٍ فاضح وحربِ أهلية كلامية، مازال الاستقطاب يمرح بيننا، وما زال المستبد يمد في طغيانه. إنها صناعة المستبد، حينما يجد في مساحات تفرّقنا موضعا لترسيخ أقدامه، وتمكين سلطانه. لا تسبوا بعضكم بعضا وتتركوا ظالمكم، وكأنكم تستحنون ظلمه، وتستمرئون مقولة أنت شعب وهم شعب، فتقسمون ظهر الجماعة الوطنية. وهنا يفلت المستبد العاتي باستبداده، ويمد في طغيانه، ونحن لا نحسن إلا هجاء بعضنا بعضا، فيكون ذلك مدخلا إلى مزيد من استخفاف المستبد، وتمكين أركانه في مساحات فرقتنا، وفائض هجائنا بعضنا بعضا.. استقيموا يرحمكم الله.
أضف تعليقك