مقال بقلم: وائل قنديل
على الرغم من أن القصة كلها لا تتجاوز تحليقاً بالوجع القومي العام في الفضاء الإلكتروني، بعيداً عن أرض الواقع، فإن هذا يقضّ مضاجع الجنرال ذي القوة الغاشمة، ويطيّر النوم من عينيه، ويرفع مستويات الفزع لدي جوقته إلى اللون البرتقالي.
لا غضاضة على الإطلاق في منازلة الاستبداد فوق سحاب "السوشيال ميديا"، على ألا يكون ذلك متبوعاً بذلك الإحساس بتحقيق الانتصار، والغرق في نشوة التفوق، ذلك أن الصراع مع الطغيان لا يحسمه عدد النقرات على الكيبورد. وعلى ذلك، ينبغي الانتباه جيداً إلى أن تلك الحالة من التظاهر الإلكتروني ضد الجنرال هي محض وسيلةٍ وليست غاية، وسيلة لإيقاظ الوعي، والحفاظ على شعلة الغضب متّقدة، وحماية الذاكرة القريبة من التآكل والانقراض، ثم البناء على ما تحقق للصعود إلى لحظةٍ تستعاد فيها الثقة في إمكانية الفعل على الأرض، أو بمعنى آخر: إنزال الثورة، بوصفها فكرة وحلماً ويوتوبيا، من السماء، إلى الأرض، بتجسدها في هيئة حراكٍ حقيقيٍّ، يتخذ كل أشكال النضال الفعلي للحصول على الحقوق، ورفع الأذى، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من وطنٍ مبعثرٍ ومهانٍ ومتصاغر، إلى الحد الذي يمنع المواطن من التنفس.
مبكراً جداً، ومع صعود عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، غصباً وقمعاً وتوحشاً في القتل والإقصاء، قلت إننا بصدد زعامةٍ كرتونية ملفقة، يعمد صانعوها إلى تزييف الوقائع، وصولاً إلى "تابلوه" من خلال أضخم عملية "فوتوشوب سياسي"، بطلها ما يشبه الحاكم، لما تشبه دولة اسمها مصر، أول قل "رئيس كرتوني لدولة فوتوشوب".
وفي سبيل حماية هذا الصنم المخيف، كانوا يستبيحون كل شيء ويفعلون كل شيء، من التصفية الجسدية حتى الإخفاء في غياهب المعتقلات، مروراً بالإقصاء والإبعاد. ومن هنا، يمكن فهم حالة الرعب التي انتابت منظومة "الزعيم التابلوه" من الالتفاف حول هاشتاغ، حقّق أرقاماً هائلة في الفضاء الافتراضي، ولم تنجح مضادات السلطة في إسقاطه أو تعطيله، أو التشويش عليه.
انهارت جيوش السيسي الإعلامية أمام موجاتٍ هائلةٍ من العطسات الإلكترونية تطالبه بالرحيل، تباينت فيها المنطلقات، لكنها اتفقت على المطلب: الرحيل.
قلت سابقاً إنه تحت تأثير دق الطبول وصخب موالد النفاق والتضخيم في حجم الزعامة الكرتونية أن السيسي بلغ مرحلةً من تصديق ما تبتكره فرق النفاق السلطوي، وما تسبغه عليه من صفاتٍ لم تتورّع عن إنزاله في مرتبة أنصاف الألهة والرسل، من خلال ممارسةٍ لا تتوقف لطقوس الوثنيّة السياسية والاجتماعي، حتى بلغ به التوحد مع نفسه المتضخمة، والانفصال التام عن الواقع، أن استسلم لتخرّصات علماء وعوالم سلطة الانقلاب التي تصوّر له أنه "الوطن والدين"، بعد أن حلا وتجسدا في شخصه.
وكما يرى الرجل أنه الوطن والوطن هو، يجنح كتبته، وخدم سلطته، إلى اعتناق حلول الزعيم في أشخاصهم، أو بالإحرى ادّعاء حلوله بهم، بحيث يكاد أحدهم ينطق "أنا السيسي والسيسي أنا".
يرعبهم هذه المرة أن أحداً لم يعد يصدّق نصوصهم الوثنية المحذّرة من زوال الوطن من الخريطة، إذا زال الزعيم من السلطة، وانهارت المقايضة الزائفة التي تقول: بقاء السيسي أو الخراب العاجل، بل بات لسان حال الناس يقول له: كل هذا الخراب واقع، لأنك موجود، وليست المسألة أن الخراب سيأتي، لو أنك رحلت واختفيت من المشهد.
مرة أخرى، لا بأس في افتتاح المواجهة في العالم الافتراضي، وهنا يصبح السؤال: ماذا بعد انتفاضة العطسة الإلكترونية؟
أحسب أنه من دون تصوّر واضح لكيفية النزول بالنضال من فوق سحاب "السوشيال ميديا" إلى الأرض، ستبقى القصة محصورةً في العطس الإلكتروني، بما يمنح الجماهير شعوراً زائفاً بالراحة، ويبدّد ما تراكم من طبقاتٍ من الغضب، تبحث عن مساراتٍ حقيقية.
أضف تعليقك