يفاجئنا الكثير من أساتذتنا الكرام وهم رهن الاعتقال الجائر أنهم منشرحو الصدور رائقو السريرة يتابعون بشغف تلك “المهمة” والدور الذي انعقد في أعناقهم عندما قيّد الظالمون حريتهم….
سمعت عن تلك “المهمة” كثيرا وجميع من تحدثوا عنها مطمئنين مستبشرين، يثقون في أنهم يؤدون دور جلل مكلفون به الآن؛ لا يقل عن مهمات وأدوار الآخرين بالخارج..
بداية..فلا مراء أن تلك الروح الوثابة التي يتحدثون بها تسعدنا جميعا، بل نري فيها المزيج من الأمل الذي لا تحده الأسوار ولا تقيده المظالم والأهوال، والحرية التي لا تفارق الأجساد الحبيسة بل تقفز بالنفس فتطلقها من إسار البشر وظلمهم إلي رحاب متسع تتعرف فيه إلي عالم القيم الرحب ومعانيه الكامنة..
الأمر الأهم الآن..هو هل هناك مهمة حقيقية يقومون بها، أم هي مجرد حالة من الاطمئنان يبعث عليها التصبر والإستعانة بالله حتي يأذن هو سبحانه بالفرج..؟!
لنحاول في بضع لحيظات أن نقترب من حقيقة الحياة هناك، لنقف علي حقيقة الأمر، فيمكننا رسم خريطة معرفية تضعنا معهم في الإدراك الواقعي لطبيعة تلك المهام..لنعرف أن قضاء الله دائما خير وأن التوظيف الرباني لأهل دعوته، يحتاج التسليم كما يحتاج إلي التفكير والتعلم والابتكار..
تبدأ “المهمة” مع أولى محطات الابتلاء، وذلك علي هيئة أدوار فردية ذاتية خاصة يمارسها الجميع سواء كانوا في سجون مفتوحة أو مغلقة، في زنازين انفرادية أو جماعية، وهذه المهمة عنوانها الأول: “تزكية النفس”؛ عن طريق التفكير الجيد في كنه الحياة وطبيعتها، ومآلاتها وحكمتها، والوصول إلى إيمان عاقل، بعيدا عن إرث الأهل أو المجتمع، وهذه الوظيفة والتي يجب أن يكون كل منا قد مارسها بل ويمارسها باستمرار حتي يتجدد في قلبه الإيمان والتوحيد، إلا أن زحام الحياة ومشاغلها ربما أتت علي الكثير من الوقت اللازم لتلك المهمة رغم أهميتها وجوهريتها في حياة المؤمن، إن تجديد الإيمان في القلوب وصناعة جذوة متقدة منه يلائمها تلك الأجواء الساكنة الفارغة من ثقل الحياة وزخرفها، فضلا عن أن مشاعر المظلمة توقد وتجدد هذا الإيمان لما يصحبها من اللجوء إلي المولي عزوجل والشكوي والتضرع والاستنصار به..
يرتبط بهذا أشد الارتباط متابعة خلق الفرد الظاهرة والباطنة، ومعه محاولات التخلص من سخائم القلوب والإبقاء علي محاسنها وتنميتها والإضافة إليها..فضلا عن تلاوة وحفظ كتاب الله عزوجل لمن لم يتم حفظه من قبل، هذا بالطبع إذا كانت هناك فرصة لإقتناء مصحفا بالداخل لأن هناك بعض السجون يتم تجريدها حتي من كتاب الله، وهناك زنازين انفرادية كما في “العقرب 2” لا يسمح فيها من الأساس بدخول مصحفا أو مسبحة…فربما استنأنس الفرد هناك بما يحفظه، يستدعيه ويتأمله ويحسن فهمه وتدبره، والله سبحانه أكرم حينها من أن يترك هذا الذي يسكن إلي كتابه وهو علي حاله تلك إلا ويؤنسه به، ويفتح عليه فيه ينابيع الإدراك والفقه والحكمة ما قد تعجز معه عقول وقلوب أخري أن تصل إليه أو أن تدركه..
يأتي بعد ذلك الدور علي المهمات الجماعية، وهذه نجدها في الزنازين التي بها مجموعات من سجناء الرأي سويا، وتتعدد هذه المهام لتشمل بداية تلك المحاورات الفكرية المتتابعة، خاصة لما علمناه من ترك الانقلاب الأفكار “الداعشية” تنمو وتزدهر داخل السجون حتي تصنع بلبلة علي الفكر الإسلامي المستنير، وتكون تلك البيئة المناسبة التي يستمر فيها الانقلاب ويستقر؛ حيث يصنع بيديه ذرائع وجوده ويترك لها فرص الإزدهار والسطوع..فيشمر دعاة الحق بالداخل لعملهم الأصيل، فيعلموا الجاهل، ويجادلوا بالأحسن، حتي يستقيم الفكر ويصح المنهج، وتموت الفتنة التي يصنعها الانقلاب علي عينيه..
من ضمن المهمات أيضا التي لا يفقدها أي سجن تتاح فيه زنازين مشتركة هي حالة التكافل والتعاضد والأخوة، فالكل يتشارك في الطعام والكساء والمبيت، وتظهر هناك معادن الإيثار والمودة والتراحم كما لم ترها في مكان من قبل..!
هناك مهمات أخري ينشط فيها أصحابها بقدر الاستطاعة وبحسب ما توافر، فالطلاب يكملون تعليمهم رغم التعقيدات في المذاكراة والتقديم للإمتحانات أو حتي الإنتقال إليها، وينشط المدرسون هناك لتأدية عملهم وتقديم يد العون لكل الطلاب طوعا وبلا مقابل، فتتحول عنابر السجن إلي خلية نحل يوفر فيها الجميع ما استطاعوا لكل من يكمل تعليمه أو يتقدم لامتحان..
وبعد، فمما يلفت النظر مؤخرا أن الكثير من الشباب يلومون علي فكرة التغني بمعاني ثبات الأسير وبطولته، وبالطبع فالحق معهم إذا كان مقصدهم أن هذا الرضا والإطمئنان بالإبتلاء والمحن لا يصح أن يكون تقاعسا عن بذل الجهد في سبيل تحرير الأسري وتحقيق مآرب الحق والحرية، ولكنهم بخلاف ذلك قد يكونون مثل هذا الذي فارقه عزيز عليه بالموت، ولا يريد أن يسمع كلمات التصبر والتعزية والإحتساب بل يستأجر نائحة لتلهب نار الألم بداخله في كل وقت، وتبقي عينيه لا ينفكا عن مصابه الجلل يقلبه علي كل الوجوه، فلا يري فيه إلا الشقاء والتعاسة، ومن لا يشاركه هذا النحيب والنواح فيرميه بضعف صلته بالفقيد بل وبتبلد الشعور به وبمحنتنه..!
إن من واجبنا تجاه قضيتنا وتجاه معتقلينا أن نعرج ولو قليلا لنثبت أمرين:
الأول: أن لطف الله تعالي واقع في كل محنة، فنحاول أن نكشف عن هذا الوجه الآخر للإبتلاء، حتي تقر قلبونا فلا يأخذنا الألم فنجزع ونترك الصبر والرباط، أو ربما نتعجل مواقفا ليست مناسبة أو ليست في محلها ونتخذ من هؤلاء القابضين علي الجمر ذريعة لتلك المواقف..
الأمر الثاني: أن هناك بالفعل بطولات يسطرها المعتقلون بثباتهم وصبرهم وبحثهم عن دورهم الذي توجبه عليهم المحنة، موقنين أن لكل حال عبادة يتقربون بها لله عز وجل، فيجدون في البحث عن عبادة حالهم، ويمارسون بخلاف الصبر قائمة كبيرة من المهمات التعبدية سواء كانت شعائرية أو إعمارية تستحق المتابعة والرصد والتوثيق..
وإذا كانت الإحصاءات تشير إلي عشرات الآلاف من المعتقلين في مصر وحدها، هذا بخلاف تلك المعتقلات التي تعج بها الدول العربية والكيان الصهيوني، بل وخارج حدود أوطاننا العربية كما في “غوانتانامو”..ألا يحدو بنا كل هذا الحضور القوي للمعتقلات في حياتنا أن نبحث عن كيفية تحويلها إلي “حالة وفعل إعماري”، وهذا ليس سعيا وراء المحنة ولا تحببا إليها، وإنما هي آلية التفكير التي توجب تحويل النقمة إلي نعمة، والمحنة إلي منحة..
لقد حكى لنا القرآن الكريم كيف أن نبيا كريما أودع في السجن ظلما وجورا، فهل قضي وقته في النحاب والعويل والجزع، أم أمضاه في الدعوة في الله تعالي، وفي تعليم من معه حقيقة التوحيد، وجمال الإيمان، وترك لنا صورة للجدال المنطقي الذي يُعمل العقل، ويدفع علي التأمل والتبصر وصولا إلي التوحيد العاقل الذي يطمئن به الفؤاد والعقل..
إن نبي الله تعالي “يوسف عليه السلام”، قد قدم لنا نموذجا علي تلك “المهمات” الفردية والجماعية التي يمكنها أن تكون حالة إعمارية داخل السجون..فقد حافظ علي تزكية قلبه ونفسه فحفظ لها كرامتها وعزتها وأكد أن الحرية والكرامة صنوان لا يفترقا، فأصر علي عدم الخروج من السجن حتي تتضح حقيقة إتهامه الباطل فلم يخرج إلا مرفوع الهامة موفور الكرامة والعزة، ولكنه في الوقت نفسه أدي مهمة ثغره حينما احتاج إليها الآخرون من غير نقص أو خلل.. فأرسل إليهم من خلف قضبانه يفسر لهم رؤيا الملك…
أما مهمته الجماعية فقد كانت دعوته إلي الله تعالي والتي عرض لها القرآن في صورة تلك المحادثة الإقناعية الراقية بينه وبين الآخرين؛ فالنفس حين تشغلها المهمات العظام لن تلتفت كثيرا للمظالم الواقعة عليها، بل يكاد الفرد صاحب القضية لا يري نفسه في الأزمة إلا بالقدر الذي يعني تعطيل لدوره ومهماته في الإعمار والإصلاح، ومن ثم فقد كان خطاب “يوسف” عليه السلام خطاب عاقل مطئمن لم تغم عليه المحنة عقله فغيبته، بل ظل واعيا رائقا يدرك ويبصر بل ويعين غيره علي الإدراك والبصيرة والعمل..قال تعالي علي لسان نبيه “يوسف”: ” يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ” [يوسف: 39]. ويذكرنا هذا بفهم الصحابة العظام لدورهم هذا حين كانوا يقابلون وفود الحجيج وقت المقاطعة والحصار الجائر، فيتناسوا أن يعرضوا عليهم مظلمتهم وما هم فيه من ضنك وجوع، بل يعرضون عليهم أمر الدين، ويبصرونهم بحقيقة دعوة هذا النبي العظيم “صلي الله عليه وسلم”…!
الأمر لا يعني بالطبع ألا نبذل كافة الطاقة والجهد لاستنقاذ الأسري وتحريرهم، ولكن من الأهمية ضبط بوصلة العمل والحركة لدي كل فرد منا، بحيث لا تكن المظالم والتباكي عليها هي كل الهم والشاغل..كما أن صاحب المبدأ سوف يشغله مبدأه وهمه العام حتي وهو يطالب بتحرير نفسه وفك إساره..!
وهو ما نفهمه من طلب نبي الله تعالي “يوسف” -عليه السلام- من الذي نجا من السجن أن يذكر قصته للملك كما في قوله تعالي: ” وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ …” [يوسف: 42]..؛ فهو في الأساس طلب لإجلاء قصة الكيد لصاحب المبدأ والتي يجب أن يسعي فيها صاحبها إلي إظهار الحق وإعلاؤه و الكشف عن أي ظالم متخفٍ مطلق اليد، كما أنه لم يكن سعيا مجردا من القوة والتماسك والصبر علي البلاء، وإلا لما رفض “يوسف”-عليه السلام- الخروج قبل أن يستوثق الملك من براءته ويظهر حقيقة الكيد له..
إنها النفوس العظام حين تتعالي علي دواعي الهم الذاتي لديها، حتي لا تكاد تتذكر أنها تتعالي أو تتناسي بل هي بالفعل لا تتذكره، أو ربما تطرقت إليه لماما ثم لا يكون هو شاغلها ومحركها الأول في الحياة بل لها دور وواجب عاهدت علي القيام به مهما كانت الصعاب والحدود والحواجز..
ولكي تكتمل تلك “المهمة” الإعمارية وتؤتي ثمارها، يجب أن يظل ذوي المعتقلين والمهتمين بأمرهم مثلا أيضا في الصبر والرضي، بل وفي بث الطمأنينة والتشجيع في قلوب ذويهم..فلا يؤتي من قبلهم أبدا..
أضف تعليقك