بقلم: ساري عرابي
1)
حينما بدأ أردوغان ومجموعته يكافحون من داخل الدولة التركية، وجدوا أمامهم العديد من الحقائق السابقة على كفاحهم، بل والسابقة على وجودهم. وهم، وعلى أي حال، كانوا عالمين بها قبل أن يعانوها. وقد اختط أردوغان طريقا أكثر براغماتية من سلفه وأستاذه نجم الدين أربكان. وبالإضافة إلى جملة ظروف وعناصر مساعدة، بعضها متعلق باللحظة التاريخية التي صعد فيها أردوغان أول الأمر، وبعضها متعلق بالظرف التركي الذاتي أو بموقع تركيا من الغرب، بالإضافة إلى ذلك، منحت تلك البراغماتية صاحبها مزيدا من النجاحات، هيأت له قوّة ذاتية، ومكنته من تصفية محاولة انقلاب تموز/ يوليو 2016، ثم الدفع بمشروعه نحو معالم أوضح، وإن بأدوات أكثر خشونة.
منذ بدايات تلك الرحلة، وهناك انقسام حول هذه التجربة في عالمنا العربي؛ ينطلق من المبدأ نفسه، وإن اختلفت أيديولوجيات المنقسمين ودوافعهم ومشاعرهم، بمعنى أن المختلفين يتناولون التجربة بصفتها تجربة تجريدية منفكة عن سياقها وملابساتها. فخصوم التجربة، والذين لا يخلو كثير منهم من انحيازات سياسية أو أيديولوجية تتسم بالكراهية، يأخذون التجربة بمعزل عن الحقائق السابقة على وجود أردوغان، كالدور الوظيفي الذي منحته قوى الغرب الكبرى لتركيا، وعلاقات تركيا بالكيان الصهيوني.
خصوم التجربة، والذين لا يخلو كثير منهم من انحيازات سياسية أو أيديولوجية تتسم بالكراهية، يأخذون التجربة بمعزل عن الحقائق السابقة على وجود أردوغان
والحال هذه، فإنّه يمكن قول الكثير في نقد سياسات أردوغان الإقليمية والدولية، بما في ذلك علاقات بلده بـ"إسرائيل"، وهذا ما هو منوط بنا نحن العرب والفلسطينيين، ولا ينبغي أن يكون دورنا توفير الغطاء لسياسات تمسّ بحقوقنا، أو توفير دعاية سياسية لفاعل إقليمي نمنحه بدعايتنا أكثر مما يفعله هذا الفاعل لنا ولقضيتنا، رغم توسله (من ضمن ما يتوسل به في تسويق سياساته) بقضيتنا، لكن هذا شيء، وأكثره متعلق بنا، أي بكيفية تعاملنا نحن مع أردوغان وحكمه وسعينا للاستفادة القصوى منه، وتناول علاقات تركيا بـ"إسرائيل" كأنّ أردوغان صانعها شيء آخر، فالأخير محض تجنّ وافتراء.
(2)
في هذا السياق، ما الذي يهمّني أنا الفلسطيني، وإلى جانبي العربي، من أردوغان وتجربته؟ بالتأكيد نحن عموما نُعنى بهذه التجربة؛ للتقارب الثقافي بيننا وبين الأتراك، ولتاريخنا المشترك، ولتداخل سياساتهم مع قضايانا، ولأننا مسلمون. وطالما أن هذه التجربة تسعى لاستعادة الهوية الإسلامية لتركيا، وإن بطول نفس وبمداراة للحقائق السابقة على وجودها، فإنّ هذه التجربة من هذه الزاوية هي الأقرب إلينا.
عموما نُعنى بهذه التجربة؛ للتقارب الثقافي بيننا وبين الأتراك، ولتاريخنا المشترك، ولتداخل سياساتهم مع قضايانا
ثم، ولأنّ هذه التجربة بدت أكثر اهتماما بقضيتنا، وأكثر دعما لها من بقية فرقاء السياسة التركية الآخرين، وأكثر قبولا لفصائل المقاومة من بقية الفاعلين الأتراك الآخرين، بالإضافة لتوفيرها الملجأ لملايين المشردين، أو لآلاف الفارين من بطش الطغاة في المحيط العربي، فهي أيضا هي من هذه الزاوية هي الأقرب إلينا.
فإذا كانت هذه التجربة قوية بإنجازاتها، وفي القلب منها المنجز الاقتصادي، وكانت لا تعيب حلفاءها بممارسات دموية واستبدادية، فإنّ هذه أسباب إضافية للتعاطف مع هذه التجربة، لكن الأساس هو موقفها منا، ثم موقفها من موروثها الحضاري والديني، وسعيها لتخفيف النزعة العلمانية المتوحشة للدولة، إذ لا يمكننا أن نتجرد من عواطفنا الإسلامية، مع المسلمين في أي مكان في هذا العالم.
(3)
ضمن هذا القدر، لا ينبغي أن نطوي على أوهام تصوّر هذه التجربة على غير ما هي عليه في الحقيقة، وإن كان ثمّة ما يبعث على حسن الظنّ بصاحب التجربة، وكأن ثمّة تحولات في التجربة نفسها، وإقليمية ودولية، باتت تدفع لجعل صاحب التجربة في صف خصوم أعداء الأمة في الداخل والخارج. ويغنينا عن التدليل على ذلك كثافة الهجوم الذي يتعرض له أردوغان في الغرب، والمواقف الصريحة المناوئة التي تتخذها ضده دول أخرى في الإقليم؛ قريبة من سياسات ترامب ونتنياهو، وتمثل حربة العداء لثورات الشعوب.
لا ينبغي أن نطوي على أوهام تصوّر هذه التجربة على غير ما هي عليه في الحقيقة، وإن كان ثمّة ما يبعث على حسن الظنّ بصاحب التجربة
لكن الأمر حتى الساعة يظلّ في هذه الحدود، ويكفينا القول من ذلك، إن الرجل وفريقه أفضل الموجود بالنسبة لنا في الداخل التركي، ونحن هنا لسنا في صدد المقارنة بينه وبين فاعلين إقليميين آخرين، بعضهم قدّم لقضيتنا أكثر منه، وعلى نحو أجرأ وأكثر صراحة وفائدة، وإنما نحن بصدد المقارنة بينه وبين فاعلين أتراك آخرين، وزيادة أنصارنا في الإقليم هو مصلحتنا، لا العكس.
لكن هذا كله أيضا شيء، وتجريده من سياقاته وملابساته شيء آخر. فكما أن كارهي أردوغان يأخذون تجربته بمعزل عن كل الحقاق السابقة على وجوده، فإنّ فريقا من محبيه في مجالنا العربي يأخذونها بمعزل عن سياقاته وملابساته الخاصة، وينظرون لتجربته وكأنها وحي يصلح بكل ما فيه؛ لكل زمان ومكان، وينبغي أخذه بكل جمله ومفرداته، بكل كلياته وتفاصيله.
هذا التصور الذي يرفع التجربة من الواقع التطبيقي العملي، حيث تتبدى العبقرية السياسية وإمكانات المواءمة والموازنة، إلى مثاليات النظرية غير المجربة، إنما هو في الحقيقة حطّ من التجربة وصاحبها. فقيمة التجربة في واقعيتها وقدرتها على المواءمة والتخلص والاحتواء والتوازن، وليست نسخة مكتوبة من نظرية لم يفعل أردوغان أكثر من الإيمان بها ثم تجسيدها في الواقع بمحض الإيمان المجرّد.
(4)
الذين يقومون بعملية التجريد هذه، لا يقصدون بالتأكيد الحطّ من أردوغان وكفاحه ومهارته السياسية، وإنما ينطلقون من إعجاب مشدوه مسلوب الوعي يقارب التقديس، وأحيانا من تصفية حسابات فكرية داخل الصفّ الإسلامي العربي نفسه؛ بتعيير الفاعلين الإسلاميين العرب بتجربة أخرى ناجحة.
هؤلاء وهم يجردون هذه التجربة عن كل ملابساتها، فإنّهم لا يحطّون من قدر أردوغان فحسب، دون أن يقصدوا طبعا، ولكنهم أيضا يصعبون الاستفادة من التجربة، إذ يستحيل استنساخ أي تجربة بالكلية، وأردوغان نفسه لو حكم في واقع مختلف، بحقائق مختلفة وقوانين مختلفة وبيئة ومجتمع مختلفين، لكانت سياساته بالضرورة مختلفة..
وهم يجردون هذه التجربة عن كل ملابساتها، فإنّهم لا يحطّون من قدر أردوغان فحسب، دون أن يقصدوا طبعا، ولكنهم أيضا يصعبون الاستفادة من التجربة، إذ يستحيل استنساخ أي تجربة بالكلية
يبدو الأمر غاية في الغرابة حينما يدعو أحدهم لإخضاع نصوص الوحي للواقع وجعل الواقع مرجعية لها، بينما في الوقت نفسه يصوّر تجربة أردوغان وكأنّها متعالية على الواقع، لا ينبغي أن نتعامل معها بالتجزيء والأخذ والردّ، وإنما بأخذها كلّها كما هي، بما في ذلك بالقوانين التركية السابقة أساسا على وجود أردوغان نفسه!!
لا فرق إذن بين من يحمّل أردوغان وزر العلاقات التركية الإسرائيلية بالكامل؛ متجاهلا أنها سابقة على وجوده، وبين من يفتخر بحزمة قوانين مغرقة في علمانيتها ومناقضتها للشريعة وللفطرة التي فطر الله الناس عليها، جاعلا إياها من عبقريات أردوغان، داعيا لاستنساخها، متجاهلا أنها سابقة على وجوده، وأن لها سياقات خاصة بها، متعلقة بالظرف التركي.. إن الاتجاهين مختلفان، ما بين كاره لأردوغان ومحب له، ولكن المبدأ واحد، أي تجريد التجربة عن سياقاتها!
(4)
من صور تجريد التجربة عن وقائعها الخاصة، والتعامل معها بتصورات مثالية لا يحتملها أي واقع سياسي، أخذ ممارسات أردوغان التي توصف بالسلطوية منزوعة من سياقها، وكأن تركيا كانت قد استقرّت ديمقراطيا، وخلت من الانقلابات العسكرية وتدخلات الدولة العميقة واختراقات الغرب، وكأننا لم نكن إزاء انقلاب دموي قبل سنتين فحسب!
إنّ الذين يتجاهلون أن التحول الديمقراطي غير مكتمل في تركيا، وأن هذا النمط من التحولات يحتاج تدخلات خشنة وجراحية لتكريسه، ولكي يتحول إلى أيديولوجية دولة لا تتأثر بانحرافات الفاعلين، ربما يغترّون بطول حكم أردوغان، لكن هذا يحيل إلى ضعف في المتابعة السياسية، ولا يأخذ بعين الاعتبار أن ما يوصف بالسلطوية، هو وحده الذي أوصل الممارسة الديمقراطية إلى هذا القدر من النضج، وإن لم يكن آمنا بعد، أي عناد أردوغان وقوته حيثما لزم ذلك.
هذه التجارب المتلبّسة بالواقع، لا يمكننا الاستفادة منها إلا بأن نقترب منها واقعيا، بعيدا عن أوهام التجريد التي تراها كلا واحدا من الخير والصواب، أو الشر والخطأ، وهذا لا يكون إلا بالنقد وفهم الحيثيات الخاصة، وتاريخية التجربة وسياقاتها
وبما أن أردوغان صاحب مشروع، وليس قائدا عسكريّا يمكن استبداله ببساطة، وهذا المشروع لم يكتمل بعد، وبما أن تركيا في مرحلة التحول، وبما أن الممارسة الديمقراطية ما تزال تجري في واقع من التحولات المحفوفة بالخطر، فإنّ استمرار الرجل قائدا للتجربة ضرورة، وليس أمرا غير معيب فحسب.
بيد أن هذه التجارب المتلبّسة بالواقع، لا يمكننا الاستفادة منها إلا بأن نقترب منها واقعيا، بعيدا عن أوهام التجريد التي تراها كلا واحدا من الخير والصواب، أو الشر والخطأ، وهذا لا يكون إلا بالنقد وفهم الحيثيات الخاصة، وتاريخية التجربة وسياقاتها. فالحب والكره وحدهما لا يكفيان للفهم أو الاستفادة أو النقد، وبالتأكيد لا يكفي لذلك الرغبة في المماحكة والتعيير!
أضف تعليقك