بقلم: سمية الغنوشي
كان من الممكن اعتبار الانتخابات التركية حدثا عاديا في إطار الاحتكام إلى صناديق الاقتراع ومبدأ التداول السلمي على السلطة المعمول به في عدد كبير من دول العالم وبعض دول المنطقة، لولا حجم الرهانات الداخلية والخارجية على هذه الانتخابات، ثم مستوى التحريض ضد أردوغان وحزبه بهدف إخراجه من الحكم، بل إبعاده من المشهد السياسي التركي جملة وتفصيلا.
مع اتجاه السياسة الخارجية التركية نحو نوع من الاستقلالية والدفاع عن المصالح التركية، وانحيازها لجملة من الملفات الحساسة في المنطقة، وعلى رأسها فلسطين والقدس، بدأت تتشكل ملامح حلف موضوعي متعدد المواقع والأهداف، التقى على شيء واحد وموحد: ضرورة إسقاط أردوغان والتخلص منه بكل السبل.
إشارة الانطلاق جاءت من الطرف الإسرائيلي، مُذ شهد العالم تلك الملاسنة الشهيرة في ندوة دافوس، حين اعترض أردوغان على مغالطات العجوز بيريس قبل أن يغادر المنصة غاضبا.
هذه الأجواء أفصحت عن خلاف تركي إسرائيلي واضح حول الاحتلال والقدس واستهداف سفينة مرمرة التي كانت تقل متضامنين مع أهالي غزة المحاصرين.
في هذه الأجواء، انطلقت آلة إعلامية هائلة لشيطنة أردوغان، في الولايات المتحدة الأمريكية وسائر العواصم الغربية، بعدما كان يقدم هو وحزبه كنموذج مستقبلي للمنطقة، بديل عن الإسلام السياسي.
لكن المعركة الأشد شراسة، التي اختلطت فيها الأحقاد بالرعونة السياسية وفقدان الصواب، شُنّت من بعض العواصم العربية، التي شكلت معسكرا مضادا لثورات الربيع العربي، واعتبرت أردوغان المحرك الرئيس لموجة التغيير والاطاحة بعديد الأنظمة العربية.
هكذا، تحدد ثلاثي الشر عند هؤلاء: أردوغان وقطر والإسلام السياسي.
وبدأ الجميع يصوب سهامه باتجاه الرئيس التركي ويسعى جاهدا للإطاحة به، عبر حرب باردة وأخرى ساخنة، استخدم فيها المال والإعلام والاستهداف الاقتصادي والمالي ولعبة التحريض، وكل شيء.
ولعل أكثر ما يثير جزع وفزع هذا المعسكر العربي من مشروع أردوغان، هو التقاء الإسلام السني مع خط الديمقراطية والتغيير، بما يهزّ معادلات الحكم التقليدية التي تشكلت منذ فجر القرن الماضي.
تمكن المحور الخليجي من كبح جماح المشروع الإيراني في المنطقة، من خلال الاتكاء على المعطى الطائفي، أي بالقول: "نحن إسلام أهل السنة والجماعة، وهم إسلام شيعي غريب لا صلة لنا به".
المشكلة أن هذا الخطاب يتهاوى ويفقد مسوغاته حين تلتقي الديمقراطية وأشواق الحرية والرغبة في التحرر على أرضية إسلامية سنية، بقيادة زعيم متدين وحداثي، وهذا هو أسّ البلاء.
وهو ما يفسر مستوى الشراسة وحجم البغض الذي أبداه المحور الخليجي لهذا التوجه، فذهب برشده وأفقده المشروعية الدينية التي كان يحتمي بها لعقود طويلة، في مواجهة المد اليساري والقومي منذ خمسينات القرن الماضي، أو للتصدي لاندفاعات المشروع الثوري الشيعي في ثمانينات القرن الماضي.
أما اليوم فيقف الإمبراطور "السني" عاريا: بلا إسلام ولا ديمقراطية ولا فلسطين أيضا.
تدفعه موجة التغيير التي ضربت المنطقة إلى خلع رداء الشرعية الدينية وتقمص ثوب الليبرالية (ليبرالية تسلطية)، وإلقاء قضية فلسطين والقدس جانبا أمام الأشهاد.
وهو لا يدرك في غمرة جنونه هذه أنه يفرط في مورد شرعيته الرمزية التي حمته لعقود متتالية في وجه كل الهزات والتقلبات السياسية.
تقاطع هذا المحور مع التيار اليميني الأمريكي والأوروبي، الذي تمتزج عنده كراهية الإسلام والمهاجرين ومناصرة إسرائيل، بالعداء لتركيا أردوغان، وكل ما يمت له بصلة.
ومع هذا التلاقي، ارتفعت طموحات هذه الدول الخليجية للعب أدوار في عموم المنطقة وما بعدها تفوق حجمها وإمكانياتها.
أخذت الحرب على أردوغان وجوها مختلفة، مثلما كانت تدور على جبهات ومراحل متتالية، في ما يشبه الحرب الإستراتيجية والشاملة التي تستخدم فيها الأسلحة التقليدية وغير التقليدية.
حاولت هذه القوى المناوئة إنهاك أردوغان وإضعافه، من خلال دعم المعارضة بعد شحن الأجواء الداخلية ضده (في غازي بارك) بخلفية حرمان حزبه من الأغلبية البرلمانية في انتخابات 2015.
وقد تحققت مراميها مع عجز حزب العدالة عن تشكيل الحكومة وقتها، لفقدانه الأغلبية وامتناع بقية الأحزاب عن تكوين حكومة ائتلاف.
بيد أن أردوغان، كعادته، اتخذ القرار الصعب وباغتهم بالمضي إلى انتخابات تشريعية جديدة، وفق الصلاحيات التي يتيحها الدستور، فاسترد زمام المبادرة وخرج من المأزق الحكومي بأقل التكاليف.
وحين فشلت هذه القوى في تنفيذ انقلاب ناعم ضده هو وحزبه عبر الآليات الديمقراطية، انتقلت إلى دعم انقلاب عسكري مغلظ عبر التحالف مع جماعة فتح الله جولن وضخها بالمال والدعاية. حتى إن سكاي نيوز طفقت تتحدث عن نهاية أردوغان من اللحظات الأولى التي تحركت فيها دبابات الانقلابيين.
وهو ما برز جليا في المحاولة الانقلابية في صائفة 2016، حيث التقى على أردوغان الجنرالات الغاضبون في الداخل، مع غطاء سياسي أمريكي غربي مدعوم بالمال والتحريض الخليجي.
وحين أحبط الشعب التركي مشروع الانقلاب بقوة الشارع، عادت هذه القوى مجددا إلى المربع الأول، أي السعي لإرباك أردوغان، تمهيدا لإسقاطه والتخلص منه عبر الانتخابات وتقوية جبهة خصوم الداخل.
لم يترددوا في شن حرب اقتصادية شرسة ضد أردوغان عبر زعزعة الليرة وضرب مقومات الاقتصاد التركي لإثارة عوامل التذمر لدى الأتراك قبل الذهاب لصناديق الاقتراع.
نفس القوى التي صممت على إسقاط أردوغان بالانقلاب العسكري سنة 2016 راهنت على إزاحته من المشهد في الانتخابات الأخيرة، مما يعكس عمق الاستقطاب الداخلي وثقل الرهانات الإقليمية والدولية المصاحبة لها.
هذا يعني أن فوز أردوغان من الدور الأول، ثم نجاح حزبه بالتحالف مع القوميين في تحصيل الأغلبية هو انتصار بالنقاط على خصومه المتربصين به شرا.
إن بقاء أردوغان في موقع الرئاسة معززا بشرعية شعبية قوية هو انتصار لمشروع تركيا القوية الفاعلة والناجحة اقتصاديا وتنمويا، ثم المتصالحة مع هويتها التاريخية والثقافية، التي قُمعت واستبعدت في عصر الجمهورية منذ عشرينات القرن الماضي.
وهو نجاح لمشروع الإسلام الديمقراطي على حساب الجبهة المضادة، التي يمثلها المشروع المعادي للتغيير والديمقراطية والإسلام الإصلاحي.
إذا كان أردوغان يقول بلسان تركي، إن الإسلام يتقاطع مع الديمقراطية والحريّة والتنمية والنجاح الاقتصادي، فإن المحور المضاد في المنطقة ما انفك يردد بلسان عربي وأعجمي أن الديمقراطية لن تجر عليكم غير الفوضى والخراب والاحتراب، ويعلن أن الخير كلَّ الخير في التسلطيات العسكرية والمدنية المتدثرة برداء ليبرالي زائف.
وإذا كان أردوغان يبشر بالانتخابات والمنافسة الحرة والتداول السلمي على السلطة، فإن المشروع المقابل ينذر بالتداول الغليظ عبر الدسائس والانقلابات الساخنة والناعمة.
فوز أردوغان تمكين لخط الإسلام التحرري والديمقراطي، على حساب الإسلام الرجعي والتيوقراطي، وانتصار لقوى التغيير والمستقبل والحداثة الحقيقية، على أرباب الجمود والزيف والتسلط.
أضف تعليقك