• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم.. إحسان الفقيه

«اعلم يا عزيزي الأمير .. أن أكبر إهانة يمكن أن تُلحقها بإنسان في عصرنا ومن جنسنا هي أن تنعته بأنه محروم من الأصالة والإرادة والمواهب الخاصة، وأن تقول عنه: إنه رجل عادي !!»
هكذا سطّر ديستوفيسكي في روايته "الأبله" حقيقة رؤية بعض الأنظمة للمجتمعات والتي باتت تعاني فقدان الثقة في الذات والشعور الدائم بالدون والانكسار أمام الآخر الغربي لأنه متقدم أو ناجح أو قوي او لديه القدرة لتحقيق كل ما تصبو اليه النفس البشرية.

ولطالما كنت أُثير غيْرة أبناء أمتي بأن ينظروا للناجحين من حولنا ليكونوا منطلقاً للتقدم والانطلاق، لا ليكونوا مثارا للإحباط ومنازل للانكسار والاكتئاب، وأنا أقلّب يومياً الصحافة العالمية والعربية وتقلبات الساحة الدولية في مجالات شتى، بات يثير فضولي حالة الشغف الكبير لتظاهرة كأس العالم 2018 في روسيا، عند أبناء الوطن العربي الكبير، وحكم ما سال من الحبر في التحليل والتأويل والتفسير، وبين الـ ( VAR ) وبين الخيبة التي أوصلها البعض لدرجة العار، للخروج الكبير لجميع المنتخبات العربية خالية الوفاض دونما إنجاز يُذكر.

فهل بات خروج المنتخبات العربية اليوم هو العار الحقيقي في عالم تتنافس فيه الأمم في الريادة والسيادة ومراتب العلم والمعرفة ؟

من خلال متابعتي البسيطة لمشهد التفاعل للأمّة العربية والإسلامية "سيدة الحضارات والعلوم" - مع كرة القدم معشوقة الجماهير بهذا الاهتمام والشغف الكبيرين، و مع محاولاتي التقريب والمقارنة بين واقعنا مع المعرفة والقلم والكتاب .. ومع علمي بأن أول آية نزلت في القرآن الكريم :هي { اقرأ }، أجد ذلك الزُهد المُوَجّه للعلم والفكر والبناء القِيَمي والمعرفي للأمة غريباً يستحق التوقف والدراسة .

مما حدا بي أن استذكر صرخة توفيق الحكيم منذ زمن بعيد عندما قرأ أنّ بعض لاعبي كرة القدم دون العشرين يقبضون ملايين الجنيهات فقال عبارته المشهورة: «انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم، لقد أخذ هذا اللاعب في سنة واحدة ما لم يأخذه كل أدباء مصر من أيام اخناتون »، وبعيداً عن دلالات العبارة فالأرزاق تقسيم الله الذي جعل لكل ّ شيء حكمة ( بمعزل عن كوننا رأينا تلك القسمة منطقية او غير منطقية )، ونستغفر الله أن نكون من الساخطين..

ولكني أتساءل هنا .. هل انتهى فعلا زمان القلم الذي هو جسر نهضات الأمم ومنارة الشعوب، أم هي انتكاسة في القِيَم ليغدوا فيها الفوز بمباراة لكرة القدم هو المشهد المتسيّد لآمال وطموحات المجتمعات العربية بل وغدت من طموحات رجالات الأمة وساستها .

عندما تقرأ حجم الأرقام التي تُنفق على تطوير منظومة كرة القدم في الوطن العربي – ولا أمانع ذلك من حيث المبدأ – و حجم الرواتب التي تُصرف في ذات الغاية ، وأقوم بالمقابل مقارنة ذلك بحجم الميزانيات العربية في تطوير الأنظمة التعليمية والأكاديمية ومراكز الأبحاث التي كلّما طالب رُوّادها بالدّعم اصطدموا بمعزوفة " ضعف الموارد والإمكانات المالية " ، والحالة الكربلائية في عبارة " النفقات الحكومية لهذا العام لا تحتمل إضافة نفقات أُخرى "، أزداد عجباً ..

ولا أمانع هنا الاهتمام في الجانب الرياضي ، وحتى لا تُفسّر كلماتي خطأ أو يتم إخراجها عن سياقها الصحيح، أؤكد بأنني أؤمن بمبدأ تطوير القطاع الرياضي ورسم خطط وسياسات لتنمية دوره وما يحققه من توجيه للطاقة الإيجابية للشباب العربي في هذا المجال وغيره .

ولكن ليس على حساب إغفال البناء المعرفي والقيَمي الذي هو أساس التقدّم للأمم والشعوب، وهذا الأمر يدعونا لدق ناقوس الخطر لسياسة التجهيل الممنهج للشعوب، ليُصبح للمعارف والعلوم والصناعات والاختراعات نصيب من ذلك الاهتمام في قطاع الرياضة والتنافس على الفوز في مسابقات من نوع واحد!

بالمقابل لو أردنا أن نقيّم الحالة العربية والغربية والدّول الرائدة والمتسيّدة للمستطيل الأخضر في عالم الكرة المستديرة وما تنفقه من مليارات الدولارت لتطوير منظومة التعليم ومنهجية البحث والتطوير لديها، لرأينا عجباً .

فهل يعلم المُشجّع العربي أنّ ألمانيا مثلاً بطلة كأس العالم للنسخة الماضية وحسب إحصائية لعام 2014م ترصد 106.4 مليار دولار لمراكز الأبحاث سنويّاً، وكذا البرازيل حاملة اللقب لخمس مرات تنفق 35.4 مليار دولار حسب آخر إحصائيات عام 2012 م ، وكذلك بطلة العالم إسبانيا لنسخة 2010م تنفق 19.2 مليار دولار حسب إحصائية عام 2014م .

بالمقابل حجم الإنفاق للأبحاث لدى لدولة الاحتلال الإسرائيلي ما يقدر 11.2 مليار دولار حسب إحصائية لعام 2014م ، لتصدمك الأرقام أن إنفاق 22 دولة عربية منها 8 دول نفطية تتسيّد منظمة أوبك مجتمعين على البحث العلمي سنوياً لا يتجاوز 535 مليون دولار، في الوقت الذي أنفقت فيه إسرائيل في سنة 2008 فقط 9 مليار دولار على البحث العلمي في ذات الفترة .

وهنا يدعونا النداء للسياسي العربي كما تريد التقدم في تطوير عالم الكرة والرياضات الأخرى كغيرنا، لماذا لا تعاد دراسة النفقات الحكومية في تطوير رياضة العقل والفكر، بل والحفاظ على الكفاءات العلمية التي أصبحت الهجرة أول آمالها وطموحاتها للهروب من الأسى والتهميش لها ولأبحاثها .

ولعل السياسي العربي الذي ينفق في شراء منظومات التسلح بمئات مليارات الدولارات، وقد يدعم انقلابات عسكرية تجهض تجارب ديموقراطية رائدة وتعيد أوطاناً لعصر ما قبل الحضارة والتاريخ من القهر والفقر بمئات مليارات مثلها يعيد للأذهان تساؤلا سطّره نجيب محفوظ في روايته اللص والكلاب حين قال : « و ذات مساء سألك "سعيد، ماذا يحتاج الفتى في هذا الوطن؟" ثم أجاب غير منتظر جوابك ..
"إلى المسدس و الكتاب "
المسدس يتكفل بالماضي و الكتاب للمستقبل .. فتدرب و اقرأ .. »
==

فمتى سندرك أن الهرولة خلف شراء السلاح، والإنفاق خلف أحلام المونديال الضائعة، على حساب تنمية الفرد وتطوير منظومة الحكم الرشيد للدول، والاهتمام بالقِيَم والحريّة والمعرفة، وبناء شخصية المجتمع العربي الواثق من ذاته، و الممتد لجذور أصالته، والقادر على المنافسة إن آمن بذاته وقدراته هو الاستثمار الحقيقي للموارد، وهو الشكل الحقيقي للريادة أمام الأمم ..

لأعيد صياغة التساؤل من جديد :

ماذا يحتاج الوطن ؟
الخبز أم المسدس أم الكرة أم القلم ؟!

واللبيب بالإشارة قد يقرأ قولي او يسمع صوتي في استراحة النصف الأول من مباراة ( سرقته من نفسه ) فيفهم قولي ويتأمّل!!
==
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

أضف تعليقك